مسلسل الهجوم على الشريعة لا يتوقف، والجرأة عليها والاستخفاف بها يتنامى يومًا بعد يوم، فهل من إضاءة في هذه المحنة؟ وهل من كلمة نذود بها عن حياض الشريعة في غمرة هذه السنوات الخداعات؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمته الدالُّة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُداه الذي به اهتدى المهتدون؛ من تركها من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيرها أذلَّه الله، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصلٌ بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت منها لخربت الدنيا وطوي العالم.
وهي العصمة للناس وقوام العالَم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خرابَ الدنيا وطيَّ العالم رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
والشريعة مبناها وأساسها على الحُكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.
هذه هي الشريعة التي ندافع عنها اليوم، وطيب الله ثرى الإمام ابن القيم الذي أمتع كل مُطالع لتراثه العلمي بهذه الدرر الجليلة البهية عن الشريعة.
وقد نبتت نابتة في ديار الإسلام أشربوا في قلوبهم بغض الشريعة، ومردت ألسنتهم على الطعن فيها، وتقاسموا على الكيد لها، والطعن في حكمتها وصلاحيتها، وشن الغارة على دعاتها وحملتها، بزخرف من القول، وباطل من الافتراء والتلبيس، وهؤلاء قلة والحمد لله، وإن كانوا أكثرَ نفيرًا، وأعلى ضجيجًا وجلبة، ولكن قد تأثر بهم بعض العوام الطيبين، ممن لا رسوخ لهم في العلم، ولا تحقُّقَ لهم بمصادره المعصومة، ففتنوا ببعض ما يقولون، وعلقت بهم أثارة مما به يرجفون، فصاروا ضحايا لهؤلاء الفاتنين، وأسارى لتلبيساتهم وأباطيلهم.
وإن من يتأمل في بعض ما يقوله هؤلاء لتهولُه هذه النهايات البئيسة التي قادتهم إليها أهواؤهم وأطماعهم، ويجأر إلى مُقلِّب القلوب والأبصار أن يثبِّتَ قلبه على دينه، ولو أن امرؤًا عاش كابوسًا ثقيلًا في ليلة شاتية شديدة الظلمة ما بلغت به هواجسه هذا المبلغ! وما تصور أن يرى أحدًا من جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا يجترئ على مقولات لا يجترئ على بعضها ألدُّ أعداء هذه الملة ومحاربيها من غير المسلمين!.
أرأيت الذي يقول من هؤلاء: إن القانون الوضعي يحقِّق مصالح المجتمع في بعض القضايا بأكثر مما تحققه الشريعة لو طبقت. وقد علم أن الفرق بين الشريعة والقانون كالفرق بين الخالق والمخلوق.
أو من يقول: ليس هناك ما يسمى بحكم الله على الحقيقة. فالنص الخام عندما يتعامل معه الإنسان فإنه يتأنسن فهمًا واستنباطًا، أي يصبح بشريًّا؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل، ومن المنطوق إلى المفهوم، وبالتالي يصبح الحكم به حكمًا بشريًّا يزعم أنه إلهي!
ولا يفرق في هذا بين بيان النبي صلى الله عليه وسلم للنصِّ وبيان غيره، ويزعم أن القول بخلاف ذلك يؤدي إلى تأليه النبي، وقد علم أنه هذا يؤدي إلى عدمية محضة، لأن مفاد هذا انتفاء وجود الحقائق، فلا يوجد إسلام ولا نصرانية ولا يهودية، بل ولا مناهج وضعية كالشيوعية والرأسمالية ونحوها؛ لأنها جميعًا تنطبق عليها هذه القاعدة، فبمجرد الاقتراب من نصوصها تتحول إلى شيء آخر، وأن الله جل وعلا عندما أمرنا بالتحاكم إلى كتابه كان يحيلنا إلى معدومات بالنسبة لنا لا وجود لها في الواقع، وأن الأمة الإسلامية على مدار القرون لم تهتد إلى حكم الله قط، ولم تحكم بما أنزل الله قط، ولم تقض إلا بالهوى الذي يلازم النفس البشرية عندما تتعامل مع النصوص، وتتحول في أيديها إلى مفاهيم وأحكام بشرية.
أرأيت الذي يقول: إن تطبيق الشريعة يقودنا إلى دولة دينية تحكم بالحق الإلهي، يستئثر فيها الحاكم بالحق في التحليل والتحريم والتشريع الديني نيابة عن الله، فتضفي على قراراتها صفةَ القداسة الدينية، وتدمغ معارضيها بالكفر، وقد علم أنه بذلك يطعن الإسلام والشريعة في أقدس ما يحرص عليه وهو عقيدة التوحيد التي تفصل بطريقة جازمة بين حق الله في التشريع المطلق، وحق البشر في التنفيذ، وتجعل منازعة الله في ذلك إشراكًا بالله، ومساويًا لعبادة البشر من دون الله.
أرأيت من يقول: إن الشريعة مطبقة بالفعل، وأن ما لا يقل عن 95% من تشريعاتنا مستمدة من الشريعة الإسلامية؟! ألسنا نضع في الصحافة التاريخ الهجري قبل التاريخ الميلادي؟! ألسنا نحتفل احتفالًا رسميا بالأعياد والمناسبات الدينية؟! ألسنا نحترم رجال الدين؟! ألسنا نقوم بتعليم الدين الإسلامي في المدارس وندرس الثقافة الإسلامية في الجامعات؟! فما الذي يريده دعاة تطبيق الشريعة أكثر من ذلك؟!
ولا أعجب من هذه المقولة التي تكابر في البديهيات، فإن اختزال الدين فيما ذكر فهم مغلوط لحقيقة الدين الإسلامي كما فهمه المسلمون أجمعون، إنه فهم ينطلق من المدلول الغربي لكلمة دين التي لا تتجاوز عند الغربيين إقامةَ بعض الشعائر الدينية يومَ الأحد، ثم تنطلق الحياة كلها بعد ذلك لا شأن لها بالدين، ولا شأن للدين بها إنطلاقًا من مقولة: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله).
أما الدين الإسلامي فهو مطلق الاستسلام لله جل وعلا والدينونة لشرعه في مختلف الشئون الدينية والدنيوية، لا يشذ عن ذلك حاكمٌ ولا محكوم، فقيصر وما ملكت يداه عبدٌ من عباد الله، وهو مخاطب بالانقياد لأحكام الله شأنه في ذلك شأن بقية الناس.
ولقد علم من تولى كبر هذه المقولة أنه يزعم بذلك فريةً لم يقل بها القائمون على هذه النظم أنفسهم، ولو كان الأمر كذلك فلماذا إذن كان عناء المؤسسات الدينية والقضائية الرسمية كالأزهر ووزارة العدل ونصبها عشرات السنين في تقنين الشريعة على مختلف المذاهب؟ ولماذا يعرض ذلك كله على البرلمان في دورات متتابعة؟ ولماذا إذن إنفاق الأوقات وإضاعة الأعمار في تحصيل حاصل، وتطبيق أمر هو مطبق بالفعل؟!
أرأيت الذي يقول: إن شعار (إن الحكم إلا لله) لم يرفعه على مدار التاريخ إلا الخوارج، ثم جاء دعاة تطبيق الشريعة في هذا العصر ليرفعوا نفس الشعار، ويسلكوا نفس المسلك من تكفير الأمة والخروج على جماعتها؟! ليجددوا فتنة الخوارج، ويحيوا ما اندثر من مقولاتهم الفاسدة؟! وقد علم أن هذا الشعار آيةً تُتلى في القرآن الكريم في سورة يوسف، وأن القرآن الكريم قد حكاه على لسان الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم في قوله لصاحبيه في السجن: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [يوسف: 40]. وذلك قبل أن تنقله لنا دواوين التاريخ على ألسنة الخوارج.
أرأيت من لم يقف من تاريخ الفاروق عمر إلا أنه قد عطَّل حدَّ السرقة في عام الرمادة للمصلحة، ورفض تقسيم أرض السواد بين الفاتحين للمصلحة، وأمضى الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة للمصلحة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم للمصلحة، فكانت المصلحة في فقهه هي الحاكمة على النصوص؟! وقد علم القاصي والداني أن أبرز ما يتميز به عمر أنه كان وقافًا عند كتاب الله، وأن هذا الذي ذكره عنه كان تطبيقًا رشيدًا لكتاب الله، وليس افتياتًا عليه كما يزعم المبطلون.
أرأيت من يقول أي الشرائع يريدون؟ شريعة الإخوان المسلمين؟ أم شريعة السلفيين؟ أم شريعة التبليغيين؟ أم شريعة الأزهر ودار الإفتاء؟ ومن قبل كانوا يقولون: شريعة الخوميني في إيران؟ أم شريعة النميري في السودان؟ وأم شريعة ضياء الحق في باكستان؟ أم شريعة القذافي في ليبيا؟ أم شريعة صدام في العراق؟ أم شريعة الوهابيين في السعودية؟ فأي شريعة من هذه الشرائع يريدون؟ ولماذا؟ وإذا كانوا لم يتفقوا على شريعة فيما بينهم، فكيف يدعوننا إلى أمر مبهم لم يتفقوا على مضمونه بعد؟ وقد علم أن الشريعة التي يتفق الجميع على التنادي لتطبيقها هي شريعة الكتاب والسنة، فمحكماتها مشترك بين الجميع، ومتشابهاتها يعمل فيه أهل كلِّ قُطر بما ترجح لدى علمائهم وفقهائهم وأولي الأمر منهم، ولا تثريب عليهم في ذلك ولا حرج.
ونحن نتفهم تأثر فريق من العوام ببعض هذه الشبهات، وعلوقها بأذهان بعضهم، لاسيما مع ما اعترى التيار الإسلامي الرافع للواء الشريعة من تشرذمات وتناقضات تحول بها في بعض المواقع إلى شظايا وأشلاء، ومع ما اندس بين صفوفهم من دعاة التكفير والعنف المجنون الأحمق، الذي يخاصم الحياة والأحياء، بما لا تقره شريعة ولا قانون.
من أجل هذا وغيره مما لم يذكر في هذه المقدمة تمسُّ الحاجة إلى جمع ما تقاول به هؤلاء المبطلون، والرد عليه في رويَّة وفي أناة، قيامًا بحجة الله على المرتابين، ودحضًا لأباطيل المرجفين والفاتنين.
ومع زفرات الألم التي تتصعد من قلوبنا ونحن نتابع هذا السيل الجارف من الطعون والشبهات، فإننا نرجو أن لا نتجاوز القصدَ في الرد، وأن لا يحملنا شنآن قوم على أن لا نعدل في القول، فقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ﴾ [الأنعام: 152]. وغاية ما نتشوف إليه فيما نأتي أو نذر هو فتحُ مغاليق قلوب المخالفين، وتألفها على الإنابة والاستجابة، فإن تألُّفَ المبطلين على التوبة واستحياءَهم بها أحبُّ إلى الله من إهلاكهم بفتنتهم، وحملهم على الإصرار والمحادة، لاسيما في أزمنة الفتن وغربة الدين وشيوع الجهالة وقلة العلم بآثار الرسالة.
والله من وراء القصد، والله تعالى أعلى وأعلم.
حول الهجوم على الشريعة
تاريخ النشر : 23 يونيو, 2025
التصنيفات الموضوعية: 05 السياسية الشرعية
فتاوى ذات صلة:
