لماذا يأخذ المسلمون الجزية من غير المسلمين؟

حول الجزية وعلة استحقاقها من غير المسلمين

الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الجزية مقابل ما يبذل لغير المسلمين في المجتمع المسلم من الحماية، فإنهم لا يكرهون على الاشتراك في الدفاع عن البيضة ونُصرة الدين، فهي أشبه ما تكون بضريبة الدفاع الوطني، وذلك وفقًا لهذا المبدأ الإسلامي الخالد: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. إذن كيف يحشرون للدفاع عن دين لا يؤمنون به؟!
فمن شارك منهم في ذلك طائعا حطت عنه الجزية، وإذا عجز المسلمون عن حمايتهم في موضع من المواضع حطت عنهم هذه الجزية، وإذا عجزوا عن حمايتهم في سنة من السنوات حطت عنهم جزية، هذه السُّنَّة.
ذكر أبو يوسف: أن أبا عبيدة بن الجراح عندما أعلَمَه نوابُه على مدن الشام بتجمُّع الرُّوم لمقاتلة المسلمين، كتب أبو عبيدة إلى كل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها: يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئًا(1).
وقال البلاذري في «فتوح البلدان»: حدثني أبو حفص الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموعَ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردُّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحبُّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جندَ هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد فأغلقوا الأبواب وحرسوها(2).
والجزية: التزامٌ ماليٌّ محدودٌ يدفع المسلم أضعافَه زكوات وصدقات وكفارات، ومن شروطها البلوغُ، والعقل، والذكورة، والحرية، والمقدِرة المالية، والسلامة من العاهات المزمنة.
فهي لا تُفرض على النساء، ولا على الأطفال، ولا على الشيوخ، ولا على الـمُعدَمين، ولا على الزَّمنى والمعوقين، ولا على المنقطعين في الأديرة للعبادة.
ومن كان غنيًّا ثم افتقر تحطُّ عنه الجزية ويُعال هو أولاده من بيت مال المسلمين ما أقامَ بدار الإسلام، ففي كتاب الصلح بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأهل الحيرة: وجعلت لهم أيَّما شيخ ضعُفَ عن العمل، أو أصابتْهُ آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم(3).
وروي أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أُسْأَل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضُربَاءَه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضَع عنه الجزية وعن ضربائه(4).
وتقدير الجزية يختلف بطبيعة الحال باختلاف الزمان والمكان والوُسع والإطاقة، وهو موكول إلى الدولة، ولكن نظرة إلى تقديرات الراشدين تُبين لك الفلك الذي تدور فيه هذه التقديرات، فمن تقديرات عمر بن الخطاب للجزية أنها تفرض على الغني الموسر 48 درهمًا، وعلى المتوسط 24 درهمًا، وعلى الفقير 12 درهمًا، فإذا عرفت أن الدرهم يساوي ثلاثة جرامات، وعرفت أن قيمة الجرام من أنقى أنواع الفضة نصف دولار، عرفت أن مقدار الجزية على أغنى أغنياء أهل الذمة لا تزيد على سبعين دولارًا في العام، وتهبط مع الفقير إلى 18 دولارًا في العام، فأين هذا من ترسانة قوانين الضرائب في واقعنا المعاصر؟!
والمسلمون المغتربون خارج بلاد الإسلام يدفعون مبالغَ ضريبية مُبالغٌ فيها قد تصل في بعض الأحيان إلى 40 % من مجموع الدخل أو يزيد، حتى سُمِّيت جهة الضرائب الشريكَ الصامت، الذي يشاركك في دخلك عَنْوةً وهو صامت ساكن.
ولا حرج في جباية الجزية باسم الضريبة، فإن باب السياسة الشرعية يتسع لمثل ذلك، كما فعل عمر مع نصارى بني تغلب؛ حيث أخذ منهم الجزية باسم الصَّدَقة، فقد تصالح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع بني تغلب على أن يدفعوا ضعف ما يدفعه المسلم في الزكاة تحت مسمى الصدقة عوضًا عن الجزية(5).
قال ابن قدامة: بنو تغلب بن وائل من العرب، من ربيعة بن نزار؛ انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا: نحن عرب، خُذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقةً، فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأسٌ وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تُعِن عليك عدوَّك بهم، وخذ منهم الجزيةَ باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم فردَّهم وضعَّف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين، ومن كل عشرين دينارًا دينارًا، ومن كل مائتي درهم عشرةَ دراهم، وفيما سقت السماء الخُمُسَ، وفيما سُقي بنضحٍ أو غرب أو دولاب العُشْرَ. فاستقر ذلك من قول عمر، ولم يخالفه أحدٌ من الصحابة فصار إجماعًا، وقال به الفقهاء بعد الصحابة(6).
ويقول المؤرخ آدم ميتز: كان أهل الذمة يدفعون الجزيةَ، كلٌّ منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبهَ بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذَوُو العاهات، ولا المترَهِّبون، وأهلُ الصوامع إلا إذا كان لهم يسار.
هذه هي قضية الجزية التي شغب حولها كثير من المبطلين، أو أساء فهمها بعض الطيبين. والله تعالى أعلى وأعلم.

_________________
(1) انظر: «الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله» لسليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي (3/226).
(2) انظر «فتوح البلدان» للبلاذري ص143.
(3) «الخراج» لأبي يوسف ص 156.
(4) «الخراج» لأبي يوسف ص126.
(5) أخرجه أبو يوسف في «الآثار» ص91، حديث (445).
(6) «المغني» (10/581).

تاريخ النشر : 24 يناير, 2025
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend