لقد قام تنظيمُ الدولة في العراق باستباحة فروج اليزيديات بحُجَّة أنَّهنَّ سبايا، وكان هذا تعليقي على ما كتبوا، فأرجوا إفادتي برأيكم فيما كتبوا وكتبت، وأرجو أن تعجل لي بذلك لأنِّي أريد نشر هذا الرد في أقرب فرصة:
١. هذا نقض لعهد اتفق عليه البشر بتحريم الاسترقاق، وهو عهد ملزم لكل المسلمين.
حيث اتفقت عصبة الأمم على تحريم الرِّق في 1905،والتزمت الخلافة العثمانية بهذا الأمر، وأصدرت قانونًا بتحريم الرِّقِّ سنة 1908م.
وحيث إن الاسترقاق- وإن كان مشروعًا- ولكن بإجماع المسلمين يحقُّ لولي الأمر منعُه إذا اقتضت المصلحة ذلك، فإنَّ فعل خلافتنا العثمانية الشرعية في ذلك الوقت هو فعل شرعي، يلزمنا الآن، ولا يجوز لنا نقضُه إلَّا بقرار من ولي أمر شرعي نابع من شورى وموافقة أغلب أهل الحَلِّ والعقد، وبعد أن ننبذ لغير المسلمين عهدهم، ونعلمهم أننا استبحنا السبي، ونكون مستعدين لاحتمالية أن يسبوا نساءنا كما نسبي نساءهم. بل حتى ما التزمت به الحكومات غير الإسلامية التي جاءت بعد الخلافة يلزمنا ما دام موافقًا للشرع.
وقد جاء في «المدونة» (٤/٢٧٤-٢٧٥): «نقل ابن القاسم عن الإمام مالك: إذا كان العهد الذي بيننا وبينهم في بلادهم على أن لا نقاتلهم، ولا نسبيهم، أعطونا على ذلك شيئًا أم لم يعطوا، ففي هذه الحالة لا يجوز أن نشتري منهم رقيقًا».
قال الدكتور حاكم المطيري معلِّقًا على ما جاء في هذا النقل: «وعليه يجب الالتزام بما جاء في المواثيق الدولية من منع الاسترقاق؛ إذ هو موافق لمقاصد الشريعة الإسلامية التي تتشوَّف إلى تحريرِ الإنسان من الرق».
٢. هذا تشويهٌ للإسلام وصدٌّ عن سبيل الله بأن يكون أولُ من يُشرعِنُ نقضَ هذا العهد مسلمًا يفعل ذلك باسم الإسلام، وسيتمُّ استغلال ذلك إعلاميًّا للصدِّ عن سبيل الله.
٣. هذا سنٌّ لسنَّة سيئةٍ، أسأل الله أن يُميتها في مهدها، وهي إعادة الاسترقاق، وتفتح الباب للكفار المحاربين للتوسُّع في استباحة نساءِ المسلمين واسترقاقهنَّ من باب المعاملة بالمثل.
٤. الأيزيديات لسن من أهل الكتاب، ولا يجوز التسرِّي بهنَّ على أي حال؛ لأنَّه حتى في زمن الاسترقاق لم يجز التسرِّي بالكافرات من غير أهل الكتاب. هذا مذهب عامة أهلِ العلم من أصحاب المذاهب المختلفة، لا أعلم مخالفًا في ذلك غير شيخ الإسلام ابن تيمية ووافقه ابن عثيمين من المعاصرين.
٥. بناءً على ما سبق، فإن ما يفعلونه ليس تسرٍّ ولكنَّه زنًى بنساء مخطوفات ظُلمًا، ويجب على كلِّ مسلم إنكارُ هذه الجريمة والسعي لتحريرهنَّ.
٦. ملحوظة خطيرة: هذا الشخص رجَّح في آخر مقالته جوازَ التسرِّي بالمرتدات، ونحن نعلم توسُّعَهم في وصف الرِّدَّة، يعني يُمكن أن يقتلوا واحدًا من مجاهدي أحرار الشام أو الرئيس مرسي، حيث تمَّ تكفيرُ هؤلاء في بيانات الدولة الرسمية، ثم يضاجعوا نساءهم، بل يمكن أن يخطفوهنَّ ليجامعوهنَّ وهنَّ على ذمة أزواجهنَّ، طبعًا بعدما يستبرئهن بحيضة ليكون الأمر شرعيًّا.
٧. الخلاصة أن هذا الأمر جريمة لأنَّه:
١. نقضٌ للعهود بعدم التسرِّي.
٢. تشويه للإسلام وصدٌّ عن سبيل الله.
٣. استرقاقٌ لأحرار، وهذا من الكبائر، حيث إنَّ الرسول قال أنَّه خصيم من باع حرًّا وأكل ثمنه(1).
٤. زنًى واستحلالٌ للفروج بغير حقٍّ.
كما قلت في المقدمة يا شيخنا الحبيب أرجُو إفادتي برأيكم فيما كتبوا وكتبت، وأرجو أن تعجل لي بذلك لأنِّي أريد نشرَ هذا الرَدَّ في أقرب فرصة.
تلميذكم وابنكم المحب.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلنُحَرِّر القول أولًا في قضية السَّبي في ذاتها بصورة مجرَّدة، ومنفصلة عن فعل داعش أو غيرهم، فنقول:
ليس للإسلام تشوُّف إلى الاسترقاق، بل كان تشوُّفه ولا يزال إلى العتق، ولهذا لم يجعل الاسترقاق مطلبًا من مطلوباته، ولا واجبًا من واجباته، ولا رغيبةً من رغائبه التي يَندب إليها ويشجع على ممارستها، بل جعله خيارًا من الخيارات ينظر إليه في ضوء مآله، وما ينجم عنه من صلاح أو فساد، وإن حدث فهو فَلِفَتْرَةٍ موقوتة تؤدي في النهاية وفي الأعمِّ الأغلب إلى العتق والتحرير.
ولا أدلَّ على ذلك من تجفيفِه منابعَ الرق كلها لكي لا يتجدد، فلم يبق من ذلك إلا المنبع الأوحد وهو رقُّ الجهاد المشروع في سبيل الله.
ولا أدلَّ على ذلك كذلك من سعيه الحثيث إلى تحرير الرقيق بشتَّى الوسائل، واعتباره من أجلِّ القُرُبات، وجعله خيارًا في كثير من الكفَّارات الشرعية، ككفارة الظهار، والقتلِ الخطأ والفطرِ المتعمد في رمضان، والحنث في اليمين ونحوه.
فقال تعالى في كفارة اليمين: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
وقال تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3].
وقال تعالى في كفارة القتل الخطأ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].
ومن لطيف ما يُذكر في توجيه كونِ كفارة القتل الخطأ عتقُ رقبة: أنَّ الرق في نظر الإسلام «موت»، وأن الحرية «حياة وإحياء». ولقد أبصر هذه الحكمة الإسلامية الإمامُ النسفي (710 هجرية=1310م) وهو يعَلِّل جعلَ الإسلام كفارة القتل الخطأ تحريرَ رقبةٍ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. فقال: «إن القاتل لما أخرج نفسًا مؤمنةً من جملة الأَحياء لَزِمَه أن يُدخل نفسًا مثلَها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقَها من قيد الرِّقِّ كإحيائها، من قِبَل أن الرقيق ملحقٌ بالأموات، إذ الرِّقُّ أثرٌ من آثار الكفر، والكفر موت حُكمًا {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]، ولذا منع من تصرُّف الأحرار»(2).
وفي كفارة تعمُّد الفطر في رمضان حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوسٌ عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله هلكت. قال: «مَا لَكَ؟» قال: وقعت على امرأتي وأنا صائمٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟» قال: لا. قال: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قال: لا. فقال: «فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قال: لا. قال: فمكث النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتِيَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فيها تمرٌ- والعرق: المكتل- قال: «أَيْنَ السَّائِلُ؟» فقال: أنا. قال: «خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ». فقال الرَّجلُ: أعلى أفقرَ منِّي يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها- يريد الحرَّتين (أي: المدينة)- أهلُ بيتٍ أفقر من أهل بيتي. فضحك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى بدت أنيابُه، ثمَّ قال: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»(3).
ورغَّب في عتق الرقيق ابتداءً بغير مقتض من جناية أو كفارة، ووعد على ذلك بالأجرِ الجزيل والثواب العظيم؛ ففي الحديث: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ من النَّارِ»(4).
قال الإمام النووي في «شرح صحيح مسلم»: «وفي هذا الحديث بيانُ فضلِ العتق، وأنه من أفضلِ الأعمال، ومما يحصل به العتق من النار ودخول الجنة»(5).
وفي «سنن أبي داود» و«النسائي» وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ إِلَّا كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ، يُجْزِئُ مَكَانَ كُلِّ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْمٌ مِنْ عِظَامِهِ»(6).
وعند أبي داود قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَانَتْ فِدَاءَهُ مِنْ النَّارِ»(7).
هذا. وإن الآية الوحيدة التي تعرضت لأسرى الحرب في القرآن الكريم وهي قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] لم تذكر الاسترقاقَ للأسرى، وإنما ذكرت الفداءَ وإطلاق السراح دون مقابل؛ حتى لا يكون الاسترقاق تشريعًا دائمًا للبشرية ولا ضربة لازب، لا بديل منه ولا غنى عنه، إنما هو أمر يلجأ إليه الجيشُ الإسلاميُّ المحارب عندما تقتضيه الظروفُ والملابسات، فهو ممكن عند الاقتضاء، وليس واجبًا من الواجبات.
ومن الناحية العملية لم يكن استدامةُ الاسترقاق وتوسيعُ رقعته هو المعهودَ في السُّنَّة العملية، فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم فريقًا من أسرى بدر من المشركين منًّا بغير فداء، وأطلق فريقًا آخر لقاء فدية(8). وأخذ من نصارى نجران جزيةً ورد إليهم أسراهم(9). ومنَّ على سبي هوازن وتألف قلوب الصحابة على المنِّ على أسراهم في هذه الغزوة(10)؛ ليضرب بذلك المثل لما يريد أن تهتدي إليه البشريةُ في مستقبلها.
ولم يحرم الإسلام الرقَّ جملةً واحدة من البداية للاعتبارات العمَلِيَّة التي اقتضت ذلك، فقد كان العُرف السائد يومئذٍ هو استرقاقَ أسرى الحرب أو قتلهم، وهو عرفٌ قديم جدًّا، مُوغل في ظلمات التاريخ، يكادُ يرجع إلى الإنسان الأول، ولكنه ظلَّ ملازمًا للإنسانية في شتى أطوارها.
وجاء الإسلام والناس على هذا الحال. ووقعت بينه وبين أعدائه الحروبُ، فكان الأسرى المسلمون يُسترَقُّون عند أعداء الإسلام، فتُسلب حرياتهم، ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم الذي كان يجري يومئذٍ على الرقيق، وتنتهك أعراض النساء لكل طالب، أما الأطفال- إن وقعوا أسرى- فكانوا ينشأون في ذُلِّ العبودية البغيض.
عندئذ لم يكن جديرًا بالمسلمين أن يُطلقوا سراحَ من يقَع في أيديهم من أسرى الأعداء؛ فليس من حُسن السياسة أن تُشجِّع عدوك عليك بإطلاق أسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يُسامون الخسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء، والمعاملة بالمثل هنا هي أعدلُ قانون تستطيع استخدامَه، إن لم تقل هي القانون الوحيد.
وقد كرم الإسلام النساءَ حتى في رِقِّهن بالمقارنة بما كن يلقين في غير بلاد الإسلام في ذلك الزمان؛ فلم تعد أعراضهن نهبًا مباحًا لكل طالب على طريقة البغاء التي كانت سائدة في الحضارة الرومانية، حيث تنتهك أعراضُ النساء لكل طالب، فيشترك في المرأة الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه من يبغي الاستمتاع منهم، بلا ضابط ولا نظام، ولا حريجة من دين أو خلق، ولا احترام لإنسانية أولئك النساء أبكارًا كن أم غير أبكار، فكانت أسيرات الحرب في البلاد الأخرى يهوين إلى حمأة الرذيلة بحكم أنه لا عائل لهن، ولأن سادتهن لا يشعرن نحوهن بحمية العِرض، فكانوا يدفعون بهن للاشتغال في هذه المهمة البغيضة، ويكسبون من هذه التجارة القذرة.
فجاء الإسلامُ فجعلهن ملكًا لصاحبهن وحدَه، لا يدخل عليهن أحدٌ غيره، وجعل من حقهن نيلُ الحرية بالمكاتبة، كما قضى أن الجارية المستولَدة إذا وضعت حملها أصبحت أمَّ ولد لا تُباع ولا تُوهب ولا تورث، وتَعتِق على سيدها بعد موته، ويحرر معها ولدها، وكن يلقين من حُسن المعاملة ما سارت به الركبان.
فيتحصل من جميع ما سبق أنه إذا اصطلح العالم على ترك الاسترقاق في الحروب، ودخلت بلادُ الإسلام في مثل هذه المعاهدات، ولم يعد من المسلمين أسرَى في دول أخرى يتعيَّن السعيُ لاستنقاذهن من الأَسر، ومفاداتهن بمن لدينا من أسرى غير المسلمين.
وأصبح الاسترقاقُ مجلبةً لشنِّ الغارة على الدين، ومظنةً راجحة غالبةً لرميه بالتُّهَم والمناكر، وتنفيرِ الناس من الدخول فيه، وفضِّهم عن دعوته، فيصبح من السياسة الشرعية الملائمة لمقاصد الشريعة ورُوحها تركُ الاسترقاق، والانكفافُ عنه، وإحسانُ معاملة الأسرى تألُّفًا لقلوبهم على الإسلام، واستمالةٌ لنفوسهم على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيِّنات والهدى. وكم من مطلوبات شرعية تُركَت نظرًا إلى المآل واعتبارًا بالعواقب؟! فكيف إذا كان الأمر مجرَّد مكنة من المكنات أو خيارٍ من الخيارات؟!
ألم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إعادةَ بناء البيت على قواعد إبراهيم مخافةَ ما يُثيره ذلك من الفتنة وما يجرُّ إليه من الفساد؟! فقال: «يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدِهِمْ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ؛ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ»(10). وفي رواية: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ- أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ- لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ الله وَلَـجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْـحِجْرِ»(11).
وعنون البخاريُّ على ذلك في «صحيحه» فقال: باب من ترَك بعض الاختيار مخافةَ أن يقصُر فَهم بعضُ الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه. وعلق الحافظُ بن حجر بقوله: «ويستفاد منه تركُ المصلحة لأمنِ الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولًا ما لم يكن محرمًا»(12).
قال ابن القيم رحمه الله: «لما فتح الله مكَّة وصارت دار إسلام, عزم على تغيير البيت، وردَّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك– مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه مع عدم احتمالِ قريشٍ لذلك لقرب عهدهم بالإسلام, وكونهم حديثي عهد بكفر»(13).
ومن هذا الباب امتناعُه صلى الله عليه وسلم عن قتل عبد الله بن أبي بن سلول مخافةَ أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتُل أصحابه(14). وما جاء في سورة الأنعام من النهي عن سب آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله عدوا بغير علم(15).
ومن ذلك أيضًا ما رَدَّ الله به على المشركين عندما قالوا: إن محمدًا وأصحابه قد انتهك حرمةَ الأشهر الحرم؛ فقال تعالى مبينًا أنَّ القتال فيها أقلَّ مفسدة من الصدِّ عن سبيل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
فقد أنكر الكفارُ على المسلمين استباحةَ الأشهر الحرم والقتال فيها، فردَّ الله عليهم قائلًا: نَعم القتالُ فيها كبيرُ الإثم والجُرم, ولكن الاعتداءَ على المسلمين والإسلام بالصدِّ عن سبيل الله وقتلَ المسلمين وفتنتَهم في دينهم وإخراجَهم من ديارهم, كل هذا وغيره أعظمُ مفسدةً وأكبرُ جُرمًا عند الله من انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها, وإذا كان كذلك فإن القتالَ فيها ضروريٌّ وواجبٌ لدرءِ هذه المفاسد الكبيرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالحُ والمفاسدُ والحسناتُ والسيئاتُ أو تزاحمت، فإنه يجبُ ترجيحُ الراجحُ منها… فإن الأمرَ والنهيَ وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض له، فإن كان الذي يَفُوت من المصالح أو يحصُل من المفاسد أكثرَ لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرَّمًا إذا كانت مفسدتُه أكثرَ من مصلحته»(16).
وقال العزُّ بن عبد السلام رحمه الله: «تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمودٌ وحسَنٌ، ودرء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمودٌ حسنٌ»(17).
والشريعةُ مبناها وأساسُها- كما يقول ابن القيم رحمه الله: «يقوم على الحِكَم ومصالحِ العباد في المعاش والمعاد, وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها، فكلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة, وعن الحكمة إلى العَبَث, فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل»(18).
بل لعله لا يبعد القول بحُرمة العودة إلى الاسترقاق بعد أن أعطَت دولةُ الخلافة العهدَ إلى دول العالم بتركِ الاسترقاق، ووقَّعت على ذلك فيمن وقعوا مع عصبة الأمم، وأصدرت قانونًا بتحريم الرّق سنة 1908م، وقد جاء في «المدونة» (٤/٢٧٤-٢٧٥): نقل ابن القاسم عن الإمام مالك: «إذا كان العهد الذي بيننا وبينهم في بلادهم على أن لا نقاتلهم، ولا نسبيهم، أعطونا على ذلك شيئًا أم لم يعطوا ففي هذه الحالة لا يجوز أن نشتري منهم رقيقًا»(19).
أما ما ينسب إلى داعش فمنه ما هو منحول، وتهاويل أجهزة إعلام ساحرة وآخذة بالعقول، ومنه ما قد يكون صحيحًا فلا يجوز أن يُنسب إلى الدين أو الشريعة، والله ورسوله منه براء.
والقضية هنا ليست قضيةَ داعش أو غير داعش، بل هي قضية دينٍ يُشَيْطَن، وشريعةٍ تزَيَّف، وملةٍ تُحرَّف، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فقد علم القاصي والداني ما تقاسمت عليه جُلُّ وسائل الإعلام العربية والغربية من شيطنةِ الدين والمتدينين، وشنِّ الغارة على شعائر الإسلام وشرائعه، في صلافة غير مسبوقة، وتوقُّحٍ تحار فيه العقول.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعز فيه أهلُ طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، وتصان فيه الحرمات والحقوق، اللهم آمين. والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «البيوع» باب «إثم من باع حرًّا» حديث (2227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) «تفسير النسفي» (1/240).
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الصوم» باب «إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق» حديث (1936)، ومسلم في كتاب «الصيام» باب «تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم» حديث (1111).
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «كفارات الأيمان» باب «قول الله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}» حديث (6715)، ومسلم في كتاب «العتق» باب «فضل العتق» حديث (1509)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) «شرح النووي على صحيح مسلم» (10/151).
(6) أخرجه أبو داود في كتاب «العتق» باب «أي الرقاب أفضل» حديث (3966)، وابن ماجه في كتاب «الأحكام» باب «العتق» حديث (2522) من حديث كعب بن مُرَّة رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3966).
(7) أخرجه أبو داود في كتاب «العتق» باب «أي الرقاب أفضل» حديث (3966)، من حديث كعب بن مُرَّة رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3966).
(8) انظر «السيرة النبوية» (5/ 74).
(9) أخرجه أبو داود في كتاب «الخراج والإمارة والفيء» باب «في أخذ الجزية» حديث (3041) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(10) أخرجه البخاري في كتاب «العتق» باب «من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع وجامع» حديث (2540) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
(11) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «العلم» باب «من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم» حديث (126)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «نقض الكعبة وبنائها» حديث (1333)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(12) التخريج السابق.
(13) «فتح الباري» (1/225).
(14) إعلام الموقعين (3/6-7).
(15) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «ما ينهى من دعوة الجاهلية» حديث (3518)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا» حديث (2584)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(15) قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام [108].
(16) «الاستقامة» (2/216).
(17) «قواعد الأحكام» (1/4).
(18) «إعلام الموقعين» (3/3).