أنا يا شيخ صلاح مصاب بالوسواس القهري، وما حدث معي هذا كان مجرد حديث نفس، ولم أنطق بأي لفظ أو كلمة منه، ولكني بعد ذلك تخيَّلْت أنني أحكي لحضرتك ما كنتُ أفكر فيه، وأثناء تخيُّلي هذا شككت أنني ربما نطقْتُ ما أحكيه؛ حيث إنني كنْتُ أتحدث مع أحد الأشخاص في يوم من الأيام، وظل يقول لي: «إنه من المفروض أنه لا دخل للدين في السياسة؛ حيث إن السياسة قذرة ولا دخل للدين بها». فأنا رددت عليه وقلت له: «القذارة دي ندخل ننضفها بالدين، مش نسيبها لحد ما تتسبب في فساد ديننا».
ثم تذكرْتُ اليوم هذا الموضوع، واسترسلت في التفكير، وتخيَّلْت أنني أقول لهذا الشخص: «إن هذه البلد يمكن أن تتقدم في حالتين، لكن التقدم في كل حالة سيكون مختلفًا، ففي الحالة الأولى إذا احتكمنا إلى ما أنزل الله، وأخذنا بأسباب الدنيا، سوف يفتح علينا الله أبواب كل شيء، وسوف تتقدم الدولة، وتكون من أعظم الأمم، أما في الحالة الثانية فإذا انسلخت البلد من الدين ووضعته جانبًا، وأخذت بأسباب الدنيا، ففي هذه الحالة قد يجعلنا الله نتقدم، ولكن مؤقتًا، مصداقًا لقوله تعالى:فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [44] فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44 -45]».
ولكني أثناء تخيلي وأنا أشرح هذه الحالة الثانية تخيَّلْت أنني أقول هذه الجملة «إن هذه البلد يمكن أن تتقدم إذا انسلخت من الدين ووضعته في صفيحة الزبالة». ولكني والله لم أقل هذا، ولكن كان مجرد تفكير، وأعرف أن التعبير خانني أثناء هذا التفكير، ولكنني أثناء هذا التفكير كنت متعصبًا جدًّا للحكم بالدين، وبما أنزل الله، وبعد هذا التفكير أصابني الغم، وخفت أن أكون وقعت في شيء من الكفريات وتخيَّلْت أنني أكتب وأحكي لك ما حدث، وأثناء هذا التخيل شعرت أنني ربما نطقت هذه الجملة: «إن هذه البلد يمكن أن تتقدم إذا انسلخت من الدين ووضعته في صفيحة الزبالة». على سبيل أنني أحكي لحضرتك ما حدث.
فهل إذا كنت قلت هذه الجملة: «إن البلد يمكن أن تتقدم إذا انسلخت من الدين ووضعته في صفيحة الزبالة» في سياق هذه الرواية التي تخيلتها أثناء التفكير- يعتبر ذلك من كلمات الكفر؟ وهل إذا كنت نطقتها وأنا أتخيل أنني أكتب إليك وأحكي ما حدث حتى تُفتيني- يترتب على ذلك شيء؟
ويعلم الله أنني لم أكن أسب أو أستهزئ بالدين، ولكنني على العكس كنت متعصبًا جدًّا للحكم بالدين، وبما أنزل الله، ولكن خانني التعبير أثناء التفكير، أرجو أن تُفيدني؛ حيث إنني جالس في حالة غم شديدة.
بعد أن أرسلت لحضرتك الرسالة السابقة ظللت أفكر في هذه الجملة من شدة تعبي وخوفي، وكنت أفكر فيها حتى أتفحصها هل هي من كلمات الكفر أم لا، وأثناء تفكيري هذا شعرت أنني ربما نطقتها مرة أخرى، ووالله كنْتُ أفكر فيها وأتفحصها فقط، ولم أكن أريد أن أنطقها، ولكن أثناء هذا التفكير شعرت أنني ربما نطقتها، فماذا أفعل يا شيخ صلاح؟
أنا أعاني من شدة التعب ولا أعرف ما العمل، ووالله أنا لم أقصد أبدًا أن أسب أو أستهزئ بالدين في كل هذه المواقف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فكل ما ذكرته وساوس لا يترتب عليها أثرٌ لا سلبًا ولا إيجابًا، فإن الله تعالى لا يحاسب على الوساوس والخطرات، فقد تجاوز لهذه الأمة عما حدَّثت به نفسها، ما لم تعمل به، أو تتكلم به(1).
بل إن كراهيتك لها، ومدافعتك لها، آية على صريح الإيمان الكامن في أعماقك، وإليك الحجة على هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ففي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: «أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قالوا: نعم. قال: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»(2).
والمقصود من الحديث أن كراهية هذه الوساوس وبُغضها والنُّفور منها هو صريح الإيمان، وليس المراد أن وجودها هو صريح الإيمان، قال النووي: «معناه استعظامُكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلًا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا»(3).
فلا تُقِمْ لهذه الوساوس وزنًا، ولا تُلْق لها بالًا. ولا تعتقد أنك قد جئت بما يُوجب عليك الردَّة عن الإسلام، وما يقتضيه ذلك من أن تغتسل وتُجَدِّد إيمانك، بل يكفي طردُها، والاستعاذة بالله منها ومقاومتها، ليثبت لك صريحُ الإيمان الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الشيطان يريد أن يحزنك بها، وأن يكدِّر عليك حياتك، وأن يبغض إليك دينك، فلا تُعِنْه على ذلك، وقد قال ربي جل وعلا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6].
فتجاهل ذلك كله وألق به وراء ظهرك. ونسأل الله لنا ولك العافية، والله تعالى أعلى وأعلم.