لماذا قُدِّمت إرادةُ سيدنا الخضر على إرادة الله سبحانه وتعالى، وحاشا لله طبعًا، في سورة الكهف، حيث ورد على لسان سيدنا الخضر هذه الآيات الكريمة: { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 81، 82]… إلى آخر هذه الآيات؟ نرجو إلقاء الضوء على ما سبق، ولكم مني كلُّ التحية والتقدير والاحترام.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الأصلَ أن تُنسب أعمال الخير إلى الله عز وجل، وأن لا تنسب إليه أعمالُ الشر على سبيل التأدب مع الله جل وعلا في الخطاب، وإن كان الأمرُ كلُّه لله خلقًا وتدبيرًا، وقد كان من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى قوله: «وَالْـخَيْرُ كُلُّهُ فِـي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»(1).
قال النووي: «قال الخطَّابي وغيره: فيه الإرشاد إلى الأدبِ في الثناء على الله تعالى ومدحه بأن يضاف إليه محاسنُ الأمور دون مساوئها على جهة الأدب». انتهى(2).
قال تعالى: { بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 26]. واقتصر عليه فلم ينسب الشَّر إليه، وإن كان بيدِه الخير والشرِّ والضُّرِّ والنَّفع، إذ هو على كل شيء قدير.
قال ابن القيم: «الطريقة المعهودة في القرآن الكريم هي أن أفعالَ الإحسان والرحمة والجُود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى، فيذكر فاعلها منسوبةً إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبُني الفعل معها للمفعول أدبًا في الخطاب، وإضافته إلى الله تعالى أشرفُ قسمي أفعاله.
فمنه قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].
يعني أنه في الإنعام قال: (أنعمت) وفي الغضب قال: (المغضوب عليهم) ولم يقل: غضبت عليهم.
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78 – 80]. فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى، ولما جاء إلى ذكر المرض قال: (وإذا مرضت) ولم يقل: (أمرضني) وقال: (فهو يشفين).
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].
فنسبوا إرادة الرشد إلى الرَّبِّ، وحذفوا فاعلَ إرادة الشرِّ، وبنوا الفعل للمفعُول.
ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة: { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، فأضاف العيب إلى نفسه. وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82].
ومثله قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } [الحجرات: 7]. فنسب هذا التزيين المحبوب إليه، وقال: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، فحذف الفاعل المُزَيِّن»(3).
ولهذا قصَّ تعالى على لسان الخضر عليه السلام عن السفينة:{ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]؛ تأدبًا مع الله تعالى، حيث نسَب إرادة العيب إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الله مع أنه هو الذي قدَّره.
وفي قصة اليتيمين نسبَ الخير فيها إلى الله جل وعلا، فقال تعالى:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].
وأما قوله تعالى: { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [الكهف: 81] فقد قال القرطبي في «تفسيره»: «وقال في الغلام: (فأردنا) فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى». انتهى(4).
وقيل لأن الإرادة هنا تخصُّه هو، وهو نبيٌّ، يفعل عن أَمرِ الله، كما قال: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] وهي من الله جل وعلا منةٌ ورحمةٌ وفضلٌ وخلقٌ وتقدير، فناسب ضمير الجمع. والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) أخرجه مسلم في كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» باب «الدعاء في صلاة الليل وقيامه» حديث (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2) «شرح النووي على صحيح مسلم» (6/59).
(3) «بدائع الفوائد» (2/256).
(4) «تفسير القرطبي» (11/40).