ذكرتم في فتوى لكم عدم إسلام ولي الأمر الشرعي إلى البغاة لما وجب له في عنق الأمة من حق الطاعة والنصرة، ولكن هل هذه النصرة مسئولية المؤسسات الأمنية أم مسئولية الجماهير والتجمعات الحزبية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الأصل أن مسئولية استتباب الأمن مسئولية مؤسسات الدولة في المقام الأول، وإلا تشرذم المجتمع، وتحول إلى شِيَعٍ وأحزاب يبغي بعضها على بعض، وساد فيه من الفوضى والخراب ما لا يُقدِّر قدره إلا الله؛ فقد يرتكب في فوضى ساعة من المظالم ما لا يرتكب في جور سنين. وقد اتفقت الشَّريعة والقانون على ذلك، بل يتفق عليه العقلاء فوق كل أرض وتحت كل سماء.
يقول الماوردي رحمه الله في بيان ما يناط بالأئمة (أي بالدولة ومؤسساتها) من المهمات:
«الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعُمُّ النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة والذبُّ عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
والرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك»(1).
وما يحدث من قِبَل مؤسسات الدولة من حزمٍ في ضبط الأمور يكون أعونَ على استعادة الأمن، وإشاعة الاستقرار من أن ينتصف كل إنسان لنفسه، وأن يتقابل الخصومُ الحزبيون، وينتصر كلُّ فريق لحزبه وفريقه، فيكون من الثارات والاحتقانات والفوضى والانفلات الأمني والسياسي ما لا تستصلح به دنيا، ولا يقام به دين.
ودور عموم الناس بعد ذلك يأتي في المقام الثاني، في صورة الداعم لهذه الجهود والمنسق معها، وليس أن يحلَّ محلَّها أو أن يكون بديلًا منها.
وإذا قبض على أحد البلطجية فإنه يسلم إلى مؤسسات الدولة لتتولى حسابه، في ظل ضمانات قضائية وحقوقية عادلة، بلا بغي عليه، ولا انتهاك لحرمته في دمه أو في ماله أو في عرضه، فإن العقوبة على الجرائم مردُّها إلى السلطان، ولا دخل في ذلك لآحاد الناس، والتظاهر في كل بلاد العالم تنظمه قوانين تضبطه، وتمنعه من أن يكون أداةً للفوضى والتخريب، وإتلاف المنشآت العامة وانتهاك حرمة الأموال الخاصة، ولذلك يكون في حراسة مؤسسات الدولة، وأي تجاوز يتم التعامل معه بحزم، وقد تربت هذه المجتمعات على ذلك، فعرفت حقوقها، والتزمت بواجباتها، ويبدو أن بيننا وبين ذلك مراحل يجب أن تقطع، وجهود طويلة يجب أن تبذل، والله المستعان.
فلم تكن الفتوى دعوة إلى التقابل، وإنما هي دعوة إلى أن تلتقي الجهود الحكومية والشعبية في المحافظة على مؤسسات الدولة، ومن بينها وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، وذلك دور الجيش والشرطة في المقام الأول، ثم يأتي بعد ذلك دور عموم الناس وهو دور داعم لهذه الجهود الرسمية ومنسق معها وليس بديلًا منها أو قائمًا مقامها.
ودعوتي في نهاية المطاف أن تُخلى الساحة لمؤسسات الدولة للقيام بدورها في ضبط الأمور، وأن نحذر من الشائعات التي تتكاثر في مثل هذه الأجواء، ويكون لها دورها النكد في تهييج المشاعر وتسعير الحرائق، وأن يجتمع العقلاء من الفريقين المتخاصمين للتشاور في مخرج من هذه الأزمة، وأن يكون هذا الاجتماع بنية الإصلاح؛ فقد قال تعالى:{ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، وأن يستعلي كل فريق على نوازعه الحزبية وأهوائه الشخصية، وهو في مقام السعي لدرء الفتنة وإصلاح ذات البين، فما أجَلَّ هذه العبودية وما أرفع منزلتها! فدرجتها أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، كما أخبر بذلك المعصوم صلى الله عليه وسلم في قوله: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ». قالوا: بلى. قال: «صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْـحَالِقَةُ». وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هِيَ الْـحَالِقَةُ؛ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»(1).
نسأل الله أن يُصلح ذاتَ بيننا وأن يُؤلف بين قلوبنا، وأن يجمع كلمتنا على الحق، وأن يحملنا في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبة، والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) «الأحكام السلطانية» (1/18).