عذرًا يا شيخنا أردت مزيدًا من التوضيح منكم فيما أفتيتموني به «سببت ربي! واستحكمت بي وساوس السوء فهل لي من توبة؟»:
ما فهمته من فتواكم، هو أنه حتى وإن طال بي الأمد على ما حصل، وأنني جددت توبتي بعد انقضاء العدة بزمن طويل، فإنني على نكاحي الأول. فهل هذا صحيح؟
ـ بعد الوساوس التي استبدَّت بي، أصبحت أقول لنفسي: لابد أنك تلبست بمكفِّر، من سب دين أو ما إلى ذلك، دون أن تنتبه إلى ضرورة التوبة منه، قبل النكاح.
وهذا فعلًا أمر وارد، علمًا أني كنت أصلي(على تقصيري فيها أحيانًا) و أصوم وآتي بأفعال المسلمين، بل وأسأل نفسي، هل كانت زوجتي تُصلِّي حين زواجنا، وهذه أمور تجعل النكاح باطلًا من أساسه.
وعلى ضوء هذا، أرجو يا شيخنا أن يتسع صدركم وتفتوني في حكم زواجي، وفي حكم أولادي إن كان زواجي باطلًا، أو أنجبتهم قبل التوبة، أو قبل تجديدها ما دامت عندي شكوك في حصولها من عدمه.
هل أعرض عن كل هذا وأعتبره من قبيل الوساوس والشبهات أم ماذا؟
علما بأني فعلًا مبتلى بالوساوس في كل شيء، و ما أعرض عليكم كل هذه الأمور بهذا التفصيل، إلا خوفًا من الله وحبًّا في العودة إليه وإلى شرعه.
منذ مدة وأنا أتتبع فتاويكم، وقد تبيَّن لي مدى وسطيتها وانسجامها مع روح ديننا الحنيف، فهل أتبعها في كل أمور حياتي، وتبرأ ذمتي بذلك إن شاء الله، حتى وإن كانت عبر النت أو مما أفتيتم به لغيري في حالات تنطبق علي؟
أنا أنتظر إجاباتكم بفارغ الصبر، لما لها من أهمية في علاقتي بربي وبأسرتي. وأتمنى من الله عز وجل أن يجزيكم عنا كل خير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فما فهمته من قولي صحيح، وهو الذي أفتى به بعضُ أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، واستدلَّا على ذلك بالسُّنة العملية، وهي عدم مطالبة من راجع الإسلام بعد ردَّته بتجديد عقدِ نكاحه، قال شيخ الإسلام: «وإذا أسلمت الزوجةُ والزوجُ كافرٌ، ثمَّ أسلم قبل الدخول أو بعد الدخول- فالنكاح باقٍ ما لم تنكح غيرَه، والأمر إليها ولا حكم له عليها ولا حق عليه؛ لأن الشارع لم يفصل. وهو مصلحة محضة. وكذا إن أسلم قبلَها وليس له حبسُها فمتى أسلمت ولو قبل الدخول أو بعده فهي امرأته إن اختار»(1).
وقال ابن القيم: «وكانت سنته- أي الرسول صلى الله عليه وسلم- أنه يجمع بين الزوجين إذا أسلم أحدُهما قبل الآخر وتراضيا ببقائهما على النكاح، لا يفرق بينهما، ولا يحوجهما إلى عقد جديد… وأيهما أسلم في العدة أو بعدها فالنكاح بحاله»(2).
وقال: «…أيضًا القول بتعجيلِ الفرقة فيها خلاف المعلوم من سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين، فقد ارتدَّ على عهدهم خلقٌ كثير، ومنهم من لم ترتَدَّ امرأتُه، ثم عادوا إلى الإسلام، وعادت إليهم نساؤهم، وما عرف أن أحدًا منهم أمرَ أن يجدد عقد نكاحه، مع العلم بأن منهم من عاد إلى الإسلام بعد مدة أكثر من مدة العدة، ومع العلم بأن كثيرًا من نسائهم لم ترتد، ولم يستفصل رسولُ الله ولا خلفاؤه أحدًا من أهل الردة هل عاد إلى الإسلام بعد انقضاء العدة أم قبلها»(3).
وقال الشيخ ابن عثيمين: «إذا كفَرَا بعد الدخول أو أحدهما، يوقف الأمر على انقضاءِ العدة، فلا ينفسخ، بل ننتظر حتى تنتهي العدةُ، فإن رجع للإسلام بقي النكاح. وشيخ الإسلام يرى في هذه المسألة ما رآه في المسألة الأولى، يقول: قبل انقضاء العدة تمنع المرأة من النكاح، وبعد انتهاء العدة لها أن تنكح، لكن لو أرادت ألا تنكح لعل زوجها يُسلم فلها ذلك، فحينئذ يكون الأمرُ في الارتداد في الكفر كالأمر في الإسلام»(4).
وأما بالنسبة لترك الصلاة تكاسلًا فالتكفير بذلك موضعُ نزاع عريضٍ بين أهل الفتوى، والراجح فيمن كان يصلي أحيانًا ثم ينقطع- أنه يكون فاسقًا، ولا يحكم على مثله بالردَّة، وتلك حالتك يا بني.
ولا علاقة لهذا كله بشرعية نسب أولادك، فإن لم يوجد نكاحٌ صحيح، فقد وجدت على الأقل شُبهة نكاح، وهي كافية في إثبات النسب؛ لأن الشرعَ يحتاط للأنساب، فيثبت النسب بأضعف الأدلة، ولا ينفيه إلا بأقواها.
والمهم الآن هو أن تستكثر من فعل الخيرات، وأن تستزيد من الطاعات، فإن الحسنات يذهبن السيئات(5)، وأن تحسن الظن بربك، وأن لا تقنط من رحمته، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات(6)، وهو القائل: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: 53].
هذا. ولك أن تتبع من تثق في دينه وعلمه من أهل الفتوى، ويعرف ذلك بالشيوع والاستفاضة، وبذلك تبرأ الذمة. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) «الفتاوى الكبرى» (5/466-468).
(2) «أحكام أهل الذمة» (2/694).
(3) «أحكام أهل الذمة» (2/695).
(4) «الشرح الممتع على زاد المستقنع».
(5) قال تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود: 114].
(6) قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [الشورى: 25]