ما قولكم في بعض أهل العلم ممن عُرِف بالتبحر في الفقه وأصوله وقد أفتى بأن من رفض الانقلاب العسكري ولم يسلِّم له بمصر يُعَدُّ من الخوارج، وأنه يحلُّ دمه بذلك؛ منزِّلًا حديث النبي صلي الله عليه وسلم: إذا كنتم مجتمعين على رجل وجاء من يُريد أن يفرِّقَكم فاقتلوه كائنًا من كان(1).
وقد نزَّل الاجتماع على خروج أطياف من المصريين في الثلاثين من يونيو وانضمام الجيش لهم، وقال: على عظم الدم وحرمته فقد أباح لنا النبي صلى الله عليه وسلم قتالَ هذا الخارجي.
ومنهم من قال: إن هؤلاء الإخوان مرتدون وخارجون عن الملة الحنيفية.
فما رأي فضيلتكم؟ أفتونا بارك الله فيكم ونفع بعلمكم
__________________
(1) فقد أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع» حديث (1852) من حديث عرفجة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ».
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأبدأ بالقول بأن هذا التعقيب على ما تطاير في بعض وسائل الإعلام مما نُسب إلى نفرٍ من أهل العلم من الدعوة إلى قتل المتظاهرين، وإغراء الدولة جيشًا وشرطة بذلك- لا يعني بالضرورة إقرارًا بصحة ما نسب من ذلك إليهم، ولو كان صوتًا وصورة، فنحن نعلم أن كثيرًا من الشكوك يعتري هذه التصريحات المسموعة والمرئية، من حيث القدرة على التغيير والتبديل، والقص واللصق، والإضافة والحذف، من خلال المونتاج وبرامح الفوتوشوب ونحوه، ولهذا فإن كثيرًا من الدول المتقدمة لم تعُد تعتمد محاكمها كثيرًا على مثل هذه الأدلة، وإن صحَّ الاستئناس بها كقرائن قضائية، وليست كأدلة قطعيَّة، ومن أجل هذا فإن حديثنا إنما ينصبُّ على الموضوع، وينصرف إلى هذه التصريحات في ذاتها، وعلى من قال بها، أو من راجت عليه، بصرف النظر عمن نسبت إليهم.
فمن هؤلاء قوم فضلاء، راعهم ما نُسب إليهم، وأعلنوا التبرُّؤ منه من خلال شاشات التلفاز، وأمام العالم أجمع، حتى نُسب إلى بعضهم قوله: كنت أتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعني عندما رأيت الدماءَ التي سالت في رابعة والنهضة.
وقبل أن نُعقب على ما تطاير من هذه الفتاوى والتصريحات أود أن أُنبِّه وأؤكد على جملة من الثوابت والمرتكزات نستصحبها دائمًا ولا نغفُلها أو نتغافلها طرفةَ عينٍ وتتمثل فيما يلي:
نعلن بملء أفواهنا النكيرَ التامَّ على تقصُّدِ قتل رجال الجيش أو الشرطة، فهم جزءٌ من جماعة المسلمين، لهم من العصمة والحقوق ما لسائر المسلمين، ورميُهم جميعًا بالكفر أو العمالة توطئةٌ لاستباحة دمائهم جملةً، وتقصُّدهُم جملةً مَسلكٌ بِدعيٌّ ضالٌّ، لا نعرف له حظًّا من الفقه ولا نصيبًا من المشروعية.
نؤكد بملء أفواهنا على سلميَّة هذه الاحتجاجات، وعلى حُرمةِ رفع السلاح في هذه التظاهرات. ونعلن أن نصيبَ هذه الاحتجاجات من الشرعية بقدر نصيبها من السلميَّة، ونبرأ من كل محاولة لجرِّ البلاد إلى احترابٍ واقتتال داخلي، أو نقل المشهد السوري إلى الساحة المصرية، فإن هذا يُعدُّ جريمةً بكل المقاييس. نبرأ إلى الله منها، ولا نعين عليها بقولٍ أو عمل.
نحذر بملءِ أفواهنا من الانزلاق إلى مستنقع التكفير، الذي وقع فيه الخوارج من قبلُ، وتورَّط فيه بعضُ أهل الدين في أوقات المحنة إبانَ الحقبَة الناصرية؛ حيث انزلقوا إلى تكفيرِ الظَّلمة والجلادين، واتسعت رُقعة هذه الفتنة، وأحيت مواريثَ الخوارج في الأمة، وجنت البلادُ من ورائها كثيرًا من الويلات والفجائع.
نُحذر بملءِ أفواهنا من الاستقواء بالأجنبي، مهما بلغت مرارة الظلم والاضطهاد؛ فلو دخل هؤلاء بيننا ما زادونا إلا خبالًا، ولأوضعوا خلالنا يبغوننا الفتنة(1)، وما خبر ملوك الطوائف في بلاد الأندلس ببعيد! وإن ذاكرة الأيام والليالي تختزن من الفواجع والأهوال في ذلك ما تنوء به شمُّ الجبال.
وبعد هذه المقدمات سوف نُجمل تعقيبَنا على هذه الفتاوى والتصريحات في ثلاثة أمور:
أولًا: حول وصف هذا التظاهرات بالبغي:
إنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فما هو البغي؟ إنه الخروج على الحاكم الشرعي مغالبةً بتأويل سائغ، أو كما قال ابن عرفة: «الامتناع من طاعة من ثبتت إمامتُه في غير معصية بمغالبة، ولو تأولًا» (2).
فالبغاة هم قومٌ لهم شوكة ومنعة خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، فلكي تتحقق حالة البغي، فإن هذا يقتضي وجود حاكم شرعي، ووجود خروج عليه من قوم لهم شوكة ومنعة، بتأويل سائغ.
والسؤال الآن: هل ينطبق وصفُ البغي على الحاكم الشرعي الذي انتُخب انتخابًا شرعيًّا حرًّا، أشرفت عليه اللجان القضائية، وأشرفت عليه القوات المسلحة المصرية، وبايعه القائد الأعلى لها، فصار له بحكم الدستور بيعةٌ في أعناق الشعب المصري، وأهل الحل والعقد فيه من العسكريين والمدنيين والشرعيين، مدتها أربع سنوات؟!
أم ينطبق على من خرج عليه بالدبابات والطائرات والأسلحة، بعد أن افتعل له الأزمات، واختلق له المشكلات، وبذر في طريقه ما بذر من بذور الشقاق والفتنة؟!
إن الجواب البدهي الذي لا ينبغي أن يختلف عليه اثنان، هو أن هذا الوصف ينطبق على الانقلاب العسكري، وليس على المظاهرات السلمية التي خرجت تدافع عن الشرعية، وعن صندوق الاقتراع، وعن الدستور، وعن التعاقد الاجتماعي والقانوني والدستوري، الذي اصطلح عليه الشعب المصري، وخرج ثائرًا من أجل تجاوز عصور الاستبداد، وإلغاء منطق أن يكون السيف وحده هو الحَكَم.
فاستدلال المعترضين صحيحٌ من حيث التنظير، وخطيئة من حيث التطبيق، فالانقلابيون أولى بوصف البغي، وهم أحق به وأهله!
أما الاستدلال بما رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»(3). للقول بجواز إراقة دماء المتظاهرين السلميين، فأمر لا يكاد ينقضي منه العجب!
إن نصَّ الاستشهاد بهذا الحديث يقول: «إذا كنتم جميعًا على رجل». جميعًا وليس جماعة، وهذا هو الذي حدث في ثورة 30 يونيو، خرج الشعب ولذلك كان الجيش معه لذا نحن جميعًا على رجل.
فهل كان الخارجون على الشرعية هم الأمة كلها، حتى يؤكد القائل فيقول: خرج الشعب ولذلك كان الجيش معه، لذا نحن جميعا على رجل؟! هل هذا يعني إسقاط الجنسية المصرية أو الانتماء إلى الشعب عن الذين خرجوا يؤيِّدُون الشرعية؛ وعددهم يفوق عدد الذين خرجوا ينازعونها وينقلبون عليها، بعد أن غُسِلَت أدمغتهم من خلال إعلام يحترف صناعةَ البهتان، ويرتزق سحتًا من خلال الكذب والفسوق والعصيان والتماس العيب للأبرياء؟!
ولقد رابط هؤلاء المؤيدون للشرعية زمانًا طويلًا في سلمية أبهرت العالم، وصاموا شهر رمضان في العراء، تحت وهج الشمس المحرقة، وعلى ضيق في وسائل الحياة الضرورية؛ لأنهم أصحاب رسالة، ولا تسيِّرُهم الدراهمُ والدنانير، هل أسقط عن هؤلاء جميعًا الجنسية؟ وحرمهم من حق الانتماء إلى الشعب؟ أليس هذا تكرارًا للمقولة الناصرية: الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب؟! فإن سألت من هم أعداء الشعب؟ ألفيتهم كل معارض له، وإن سألت من هو الشعب؟ فكل منافق له، من المهرجين أو المغَيَّبِين.
فمن ذا الذي انتخبته الأمة؟ وألقت إليه السلم؟ وبايعه أهلُ الحل والعقد فيها؟ أهو الرئيس المعزول أم الانقلابيون؟!
ومن ذا الذي قد سعى لشق العصا، وتفريق الجماعة، وبذر بذور الشقاق والفتنة عبر عامٍ كامل، واستظهر على ذلك بالدبابات والطائرات وأنواع الأسلحة المختلفة؟!
ومن ذا الذي رتَّب على سبيل المثال لقطع البنزين قبل 30 يونيو ثم اختفت هذه الظاهرة بعد الإعلان عن هذا الانقلاب؟ بل عندما بدأ التهديد بذلك؟! حتى الوزير المسئول عن هذه الأزمة لم يُغيَّر في الحكومة الانقلابية الجديدة؟! من يا ترى هؤلاء؟ أهم الانقلابيون أم الرئيس المعزول؟!
وهل جاء قادة الانقلاب ليُعيدوا مصر لكل المصريين كما زعموا؟! أم أنهم قد أقصوا من المشهد السياسي منذ اليوم الأول لانقلابهم من يُمثلون ما يزيد على نصف المصريين؟! ومزقوهم شرَّ مُمزَّق، فباتوا في أيام قلائل ما بين قتيل وجريح وسجين وطريد!
ألم يسلموا قياد الدولة للحداثيين والعلمانيين، والموتورين، ويقتلوا أحلامَ ما يزيد على النصف من المصريين، ويجهضوا آمالهم في دولة نظيفة ذات مرجعية إسلامية؟!
حقًّا «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»(4).
أما حول شبهة القول بولاية المتغلِّب، ووجوب الطاعة له عند أهل السنة، فإن المتغلِّب الذي يجب إلقاءُ السلم إليه دفعًا للفتنة هو من يقيم في الناس كتابَ الله، لا من يسلم أزِمَّةَ الأمور لخصوم التدين وأعداء الشريعة. ألم يسلم هؤلاء الانقلابيون قياد الدولة- كما سبق- للحداثيين والعلمانيين، والموتورين؟! وينقضوا ما غزله الإسلاميون من بعد قوة أنكاثًا، فيما يتعلق بمقترحات التعديلات الدستورية؟!
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وأن طاعته خيرٌ من الخروج عليه، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفرُ الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها»(5). اهـ.
ومن ناحية أخرى ألم يكن مبارك متغلبًا؟! فالذي أجاز الخروج عليه وهو متغلب هو الذي يجيز اليوم مقاومة السلطة الانقلابية، وعدم الاستسلام لها، وهي تدور في نفس الفلك، وتحاول إعادة تصنيع نظام مبارك مرة أخرى، بشهادة القاصي والداني والواقع والمماراسات.
ونحن في جميع الأحوال لا نتحدث عن خروج مسلحٍ، بل على احتجاج سلميٍّ، يستقبل فيه المتظاهرون استطالات الانقلابيين بصدورهم العارية، ويصرون على السلمية فيه إلى الرمق الأخير. وهي التظاهرات التي أقرتها الدولة بقائدِ انقلابها وبإمامها الأكبر، ولما أراد الانقلابيون التحلُّلَ من تبعة ذلك أعلنوا كذبًا أن هذه الاعتصامات ليست بسلمية، ومن قارن بين هذا الموقف وبين التظاهرات التي حمتها من قبل، من قبل البلطجية وقطاع الطرق، عندما كان الرئيس مرسي في سُدَّة الحكم تذهله هذه المفارقة، بين منع التظاهرات السلمية حقًّا بحجة عدم السلمية، وحماية البغي وقطع الطرق بحجة المحافظة على الحق في التظاهر السلمي!
ثانيًا: حول وصف المتظاهرين بأنهم خوارج:
ومرة أخرى إن الحُكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن هُم الخوارج الذي وصفتهم النصوص بأنهم كلاب أهل النار، وأنهم شرُّ قتلى تحت أديم السماء، وأن لمن قاتلهم أجر يوم القيامة(6).
الخوارج فرقة من فرق أهل الضلالة، لديهم غلوٌّ في الدين، بلغ بهم مبلغَ تكفير أصحاب المعاصي، وتكفير جميع من خالفهم، وتخليدهم في النار، ومن عقائدهم: القول بخلق القرآن، والتبرؤ من علي رضي الله عنه، والحكم بكُفره، وكذلك عثمان ومعاوية، والتبرؤ من كثير من الصحابة رضي الله عنهم.
والخوارج قد يزيدون على ذلك بالخروج المسلح على أئمة المسلمين، وقد يكمنون في زمن ضعفهم وذلتهم، فالخروج قد يكون عما عليه المسلمون من الدين، وذلك بتكفير أصحاب المعاصي، وتكفير المخالف لهم، ومن ليس في معسكرهم، وبذلك تثبت لهم صفةُ الخوارج، سواء عليهم أعلنوا المنابذة، والخروج على السلطان، أم بقوا كامنين ومذعنين، عجزًا، أو جُبنًا، أو تربصًا للدوائر.
وأول قرن طلع من الخوارج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقسِّم الغنائمَ بالجعرانة، فقال: اعدل يا محمد، فما أراك تعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟!». فأراد عمر رضي الله عنه قتلَه، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من قتله(7).
وأخبر عليه الصلاة والسلام: أن هذا وأصحابًا له يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون في الدين كما يمرق السهم من الرمية(8). وأمر عليه الصلاة والسلام في غير حديث بقتالهم، وبين فضل من قتلهم أو قتلوه(9).
والسؤال الآن: هل يقول المعتصمون السلميون بشيء من ذلك؟
إن الإخوان الذين تُنسب إليهم قيادة هذه المظاهرات هم أبعد الناس عن التكفير بالمعاصي، بل قد نسب إليهم من بعض خصومهم نقيض ذلك، فنسبوهم إلى الإرجاء، وتمييع قضية الأسماء والأحكام، ونسبة هذه التهمة إليهم شائعة في أوساط بعض المتدينين، لكل من تابع مجريات الأمور عن كثب. وقد جاء في الأصل العشرين من الأصول التي قررها البنا رحمه الله ما ينفي كلَا الشططين، حيث قال:
«لا نكفر مسلمًا أقرَّ بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدى الفرائض برأي أو معصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن الكريم، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملًا لا يحتمل تأويلًا غير الكفر». فأين هذا من التكفير بالمعاصي وعقيدة الخوارج؟!
وجاء في الأصل السادس قوله:
«وكل أحد يؤخذ من كلامه ويُترك، إلا المعصوم، صلى الله عليه وسلم. وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقًا للكتاب والسنة قَبِلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا».
فأين هذا مما تخوض فيه الخوارج من الطعن في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكفير علي وعثمان وطلحة والزبير وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ليس المقام مقامَ تفصيل القول في هذه المسائل، وقد يكون للإخوان أو غيرهم بعضُ الهنات أو الأخطاء، شأنهم شأن غيرهم من البشر، ولكن المرء بمُجمل أقواله، وبانتمائه المجمل، وإن علقت فيه بجهالة أو بسوء تأويل شوبٌ من مقولات بعض الفرق الأخرى.
ثالثا: حول الخلط بين البغاة والخوارج:
جماهير أهل العلم على التفريق بين البغاة والخوارج: فالخوارج وإن كانوا يجتمعون مع البغاة في وصف البغي، لأنهم بخروجهم على ولاة المسلمين بغاةٌ معتدون، وفي وصف الخروج، وحمل السلاح في وجوه الأئمة وعامة المسلمين، إلا أن بينهما فروقًا جوهرية:
فالبغاة قد يكونون من أهل السنة، ولهم اجتهاد وتأويل في خروجهم على الإمام، ولم تأت النصوص بالتحريض على قتالهم كافةً، كما جاءت في باب الخوارج، بل حضت على الإصلاح بين الفريقين، ومقاتلة الفئة الباغية عند الاقتضاء، وفرقت بين قتالهم وقتال غيرهم: أنه لا يُجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مُدبرهم، ولا يستعان عليهم بمشركٍ. وقد اتفق المسلمون على عدم تكفيرهم، أو تفسيقهم بهذا البغي وحده، فقد وقع ذلك بين الصحابة الذين اتفقت الأُمَّة على عدالتهم.
أما الخوارج الذين هم كلاب أهل النار، والذين لمن قاتلهم أجرٌ يوم القيامة، فهم الذين كان خروجهم بسبب تكفير أئمة المسلمين وعامتهم، ويستحلُّون دماءَ المسلمين وأموالهم إلا مَن خرج معهم، وقد استفاضت النصوصُ بذِمَهم والتحذير من فتنتهم، والحض على البدء بقتالهم، وفي تكفيرهم خلافٌ بين الأمة. وكان عليٌّ رضي الله عنه مسرورًا بقتالِ الخوارج، ولكنه كان أسفًا لما وقع في الجمل وصفين، لأن قتال الخوارج مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليه، ولكن القتال في الفتنة مما نهى عنه وحذَّر منه. فكيف يسوي بين ما أُمِر به وحُضَّ عليه وبين ما مُدح تاركُه وأثني عليه؟!
فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين، وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين، والحرورية المعتدين، كان قوله من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين. ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يُكفِّرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين.
كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين، فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين، مع اتفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين، والإمساك عما شجر بينهم. فكيف نسبة هذا بهذا؟!
فجمهور أهل العلم يفرِّقُون بين الخوارج المارقين وبين أهل الجمل وصفين، وغير أهل الجمل وصفين ممَّن يُعَد من البغاة المتأولين. وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامةُ أهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين وعليه نصوصُ أكثر الأئمة وأتباعهم.
ولو أن من نُسبت إليه هذه المقولة اكتفَى بالقول بأن المتظاهرين السلميين بتظاهرهم ضد الانقلابيين المتغلبين، لديهم شبهة البغي والخروج على السلطان، لأمكن مناقشته والتماس العذر له في خطئه في تحقيق المناط، أما أن يضيف إليهم شبهة الخروج بالمعنى الفِرَقِي العقائدي فهذا الذي تتحير فيه الأذهان!
ولا أدري أهي الخصومة السياسية، أم هو القلق والخوف من المجهول في ظل حكومة التيار الإسلامي الذي يناصبونه العداء، أم أنها الفتنة التي تزين لأهلها كل هذه الطوام والأوابد، أم أنها مجموع هذه العوامل مجتمعة؟!
إن أمر الدماء أمر ثقيل، فـ«لَنْ يَزَالَ الْـمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَـمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»(10). وكل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو مؤمنًا يقتل مؤمنًا متعمدًا(11).
فقد ذكر ابن قدامة- صاحب «المغني»- في كتابه «المقنع» أنه: «إن أمر السلطانُ بقتلِ إنسان بغير حقٍّ من يعلَمُ ذلك فالقصاص على القاتلِ وإن لم يعلم فعلى الآمر»(12).
والعلماء أيها السادة هم أمراءُ الأمراء، لأن الأمراء مطالبون بأن يحكموا بالشرع، وسبيلهم إلى معرفة ذلك الرجوع إلى العلماء، واتِّبَاعهم، إذ الحق والشرع لا يُعلَم إلا من قبلهم، فصاروا بذلك هم أمراء الأمراء، فإذا كان السلطان يتحرَّج من القتل فجاء إلى عالم يستفتيه، فزين له إراقةَ الدماء، وجرَّأه عليها، فعلى من يقع القصاص يا ترى؟!
إن السلطان هنا هو العالم، وقد أمر من لا يعلم حكم ذلك- وهو السلطان- بالقتل وزينه له، فإلى من تتجه العقوبة؟ مجرد سؤال، أترك للمجامع الفقهية ودُور الإفتاء في العالم الإسلامي الإجابة عليه.
وما كنا نتمنى لمنتسبٍ إلى العلم قطُّ أن يتورط في هذه المهلكة، وأن يلقى الله بهذه الأوزار الثقال، التي تنوء بها شم الجبال، ونرجو أن يكون ما نسب إليهم مشوهًا أو مكذوبًا، كما لاحظنا ذلك بالنسبة لبعضهم، ونرجو أن تكون البقية مثلهم، وأن تحذو حذوهم في البراءة مما حُرِّف من قولهم وألصق بهم.
وإننا لنحيي من بادَر إلى ذلك من أصحاب الفضيلة، الذين بترت أقوالهم من سياقها، ووظفت في غير مساقها، فبادروا إلى إعلان ذلك وإنكاره، تبرئة للذمة ونصحًا للأمة.
على كل حال من أعماق قلوبنا نتمنى لمن تورط في شيء من هذه التصريحات أن يراجع نفسه، في لحظة من لحظات الخلوة والتأمل، ولا أحَبَّ إلى قلوبنا من أوبتهم عن هذه المجازفة، ومراجعتهم الحق، فإن الحق قديمٌ لا يغيره شيء، وإن فعلوا فصدور إخوانهم أرحب مما يتصورن، وقلوبهم أصفى مما يتخيلون.
وأسأل الله أن يردَّهم إلينا ردًّا جميلًا، وأن نكون جميعًا ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47]. والله تعالى أعلى وأعلم.
______________________
(1) قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 47].
(2) «شرح حدود ابن عرفة» (1/489-490).
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع» حديث (1852) من حديث عرفجة رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «إذا لم تستحي» حديث (6120) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
(5) «فتح الباري» (13/7).
(6) فقد أخرج ابن ماجه في «المقدمة» باب «في ذكر الخوارج» حديث (176) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: شرُّ قتلى قُتلوا تحت أديم السماء، وخيرُ قتيل من قتَلُوا- كلابُ أهل النار. قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارًا. قال الراوي: يا أبا أمامة: هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحسنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (176).
(7) أخرجه مسلم في كتاب «الزكاة» باب «ذكر الخوارج وصفاتهم» حديث (1063) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(8) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم» باب «قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم» حديث (6930)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «التحريض على قتل الخوارج» حديث (1066)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَـهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْـجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَـهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ».
(9) فقد أخرج ابن ماجه في «المقدمة» باب «في ذكر الخوارج» حديث (176) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: شرُّ قتلى قُتلوا تحت أديم السماء، وخيرُ قتيل من قتَلُوا- كلابُ أهل النار. قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارًا. قال الراوي: يا أبا أمامة: هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحسنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (176).
(10) أخرجه البخاري في كتاب «الديات» باب «قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾} [النساء: 93]» حديث (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(11) قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93].
(12) انظر : «المبدع شرح المقنع» لابن مفلح (7/202-208).