نحن مجموعة من الشركاء قُمنا بعمل عقد شركة لإنشاء مدرسة خاصة، وهو عقد عُرفي غير مسجل، وتم التوقيع عليه من 10من الشركاء الموجودين وقتها، وكلف المدير باستكمال توقيعات باقي الشركاء، فأهمل ذلك ولكن تم تفعيل العقد وتم العمل به لسنوات، وتم انتخاب مجلس إدارة وانتخب رئيسه هذا الشريك المدير، وكان ممن وقعوا على هذا العقد هو وزوجته، ومما نصَّ عليه في هذه العقد جماعية إدارة الشركة من خلال مجلس مديرين ينتخب بواسطة أغلبية الشركاء المتضامنين، وإنه لا يجوز للإدارة منح أنفسهم رواتب أو مكافآت، أو التصرف في أموال المشروع إلا بإذن مجموع ثلثي الشركاء، ثم بعد ذلك طالبت وزارة التعليم العالي بوجوب عمل شركة رسمية بغرض الحصول على ترخيص قانوني، فتم عمل توكيلات للمحامي وعمل العقد، وكان الهدف منه مجرد تسيير الأعمال فأصبح لدى المدرسة عقدان:
عقد النظام الأساسي العرفي غير المسجل، وهو موقع من بعض الشركاء بأنفسهم وأهم الموقِّعين عليه هو الشريك المدير وزوجته، وهم طرف النزاع الأول.
وعقد مسجل معمول بواسطة المحامي بموجب توكيلات مرسلة له من الشركاء لمجرد تسيير الأعمال، وتم تسجيله وإشهاره بالطرق القانونية، ونصَّ فيه على فردية الإدارة وتركيز جميع السلطات بيد المدير بحيث تجعل منه المدير الأبدي الذي لا يسأل عما يفعل.
ثم فوجئ الشركاء بأن رئيس المجلس واثنان من الشركاء العاملين ومعهم الممثل القانوني (بنسبة أقل) يحصلون على رواتب ومكافآت تفوق عشرة أضعاف المثل في الشركات المماثلة (على الأقل) بغير علم ولا إذن ولا رضا بقية الشركاء، حيث بلغ متوسط دخل الواحد منهم شهريا 18 ألف جنيه (علاوة على نصيب كل منهم في الأرباح الموزعة على الشركاء) وتجعل راتب الناظر يفوق رواتب وكلاء المدرسة الثمانية مجتمعين.
والسؤال الآن:
أي العقدين يرجع إليه عند التنازع، العقد الأساسي الذي يفرض الإدارة الجماعية المقيدة بقيود شرعية منصوص عليها والتي وقع عليها معظم الشركاء (20 من 23 شريكًا)، أم العقد المسجل الذي عمل لتسيير الأعمال، والذي يفرض الإدارة الفردية الأبدية والتي ليس عليها أي قيود، وهو ما يرفضه معظم الشركاء ويقره فقط (5 من 23 شريك) أفتونا مأجورين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن العقد في الاصطلاح الشرعي هو ارتباط إرادة بأخرى على نحو يترتب عليه التزام مشروع، والصيغة كتابية كانت أو قولية هي تعبير العاقد عن إرادته بما يشعر بوقوع العقد، وتراضي أطرافه عليه، وقد تقرر عند الفقهاء أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، وليس للألفاظ والمباني، فالقصد كما يقول ابن القيم رحمه الله: «روحُ العقد ومصححُه ومبطلُه؛ فاعتبار المقصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ؛ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها؛ ومقاصد العقود هي التي تُرَادُ لأجلها؛ فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها»(1).
ويقول: «وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها، إن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات، كما هي معتبرة في القربات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالًا أو حرامًا، وصحيحًا أو فاسدًا، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة، صحيحة أو فاسدة، ودلائل هذه القاعدة تفوق الحصر»(2).
والشركة في الشريعة هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف، فالاجتماع في الاستحقاق يشير إلى شركة الأملاك، والاجتماع في التصرف يشير إلى شركة العقود، وحديثنا في هذا المقام عن شركة العقود، والتي تمخضت عنها شركة أملاك، فاجتمع فيها المعنيان: الاجتماع في الاستحقاق والتصرف معًا.
ومبنى شركة العقد عند الفقهاء جميعًا على الوكالة والأمانة، فكل من الشريكين وكيل عن صاحبه وموكِّل له، فهو يتصرف في نصيبه بالأصالة، وفي نصيب شريكه بالوكالة، والأصل أن الوكالة من العقود الجائزة بالاتفاق لا يجبر أحد أطرافها على المضي فيها رغمًا عنه، فكذلك الشركة في الأصل؛ لأنه لابد لها من الوكالة لكي تبدأ، ولابد لها من الوكالة لكي تبقى، فالوكالة مشروطة فيها ابتداء وبقاء، فإذا انقطعت الوكالة بالفسخ من أحد الشريكين فقد زالت الولاية التي كان يتصرف بها كل منهما في مال الآخر، ويصبح تصرف أي منهما بعد ذلك هو تصرف فضولي، والفضولي: هو من يتصرف تصرفًا شرعيًّا فيما ليست له ولاية عليه، وهو موقوف على إجازة الشركاء.
ولما كان القصد هو روحُ العقد ومصححُه ومبطلُه فإن المعتبر من الشروط والعقود هو ما اتجهت إليه أطراف العقد ظاهرًا وباطنًا، شرعًا وقانونًا، أما العقود النمطية أو الرسمية البحتة، التي لا يلتفت إليها المتعاقدون، ولا تراد إلا لاستيفاء الشكل القانوني وتسيير الأعمال فحسب، فهذه لا يعول عليها ولا يلتفت إليها، إلا في باب الحكم بالظاهر أمام القضاء، ولكنها لا تحلُّ حرامًا، ولا تحرم حلالًا، فلو باع أحد لآخر شقة بمبلغ نصف مليون جنيه، ثم كتبا في العقد أن قيمتها ربع مليون تخفيفًا للضرائب، فلا يجوز عند النزاع أن يتمسك أحدهما بالعقد الرسمي ليقول: إن قيمة الشقة ربع مليون وفقًا للأوراق الرسمية! ولو اتفق الزوج مع ولي الزوجة على أن مؤخر الصداق عشرة آلاف، ثم كتبوا في العقد المسجل خمسة آلاف فقط تقليلًا للرسوم، فليس للزوج عند النزاع أن يجحد المقدار الحقيقي للمهر متذرعًا بما كتب في العقد الرسمي، وإن كان القضاء معذورًا عندما يحكم بالعقد المسجل، ولكن الطرف الذي يحتج بهذا العقد ليس بمعذور، بل هو آكل لأموال الناس بالباطل.
والعقد العرفي في هذه الخصومة هو الذي أنشأ الشركة، وبموجبه اجتمع الشركاء، وقرروا إنشاء هذه الشركة، وهو الذي توافرت هممهم على مراجعته وتدقيقه؛ لأنه هو الذي أنشأ بينهم هذه العلاقة، وتواثقوا على العمل من خلاله، ووقع عليه نصف الشركاء في حينها، وكان من مهمات المدير استكمال بقية التوقيعات ولكنه لم يفعل، ولم يهتم أحد بمتابعة ذلك نظرًا للثقة المفرطة في المدير ورمزيته الدعوية يومئذ، وحديثه الذي لا ينقطع عن الشريعة والشرعية! وقد تم العمل بهذا العقد بالفعل سنوات عديدة، ولما مست الحاجة القانونية إلى عقد قانوني بشكل معين لتسيير أعمال الشركة، كان هذ العقد الآخر الذي هو موضع النزاع الآن، وهو عقد لا تتوافر الهمم على مراجعته وتدقيقه، فضلًا عن اعتباره، لعدة أسباب:
• منها: أن الشركة قائمة بالفعل، وتسير أعمالها على عقد موجود سلفًا، وقد طلب هذا العقد لاستيفاء إجراءات قانونية بحتة.
• ومنها: الثقافة السائدة بين كثير من الشركاء يومئذ ولا تزال حول النظر إلى القوانين الوضعية بصفة عامة، وأنها لا تنشئ شرعية ولا تبني علاقة! وأن اللجوء إليها يكون في حالة الضرورة والاقتهار، وليس في حالة السعة والاختيار، والضرورة تقدر بقدرها، وأن الأصل في خصوماتهم أن تحال إلى التحكيم الشرعي، الذي يحكم بمقتضى الاتفاقات الرضائية الحقيقية والتي تتفق مع الشريعة الإسلامية، إيمانًا منهم بأن تحكيم الشريعة ليس مجرد فريضة سياسية يتجه الخطاب بها إلى الزعماء والقادة فحسب، بل هي تكليف يتجه إلى آحاد الناس على سبيل التعيين في كل ما يقدرون عليه.
• ومنها: الثقافة السائدة في موطن الخصومة: أن عقود تسيير الأعمال ليست هي الحاكم الفعلي للعلاقة الحقيقة بين الطرفين؛ فقد يتصرف فيها الطرفان لتحقيق بعض المصالح، أو دفع بعض المفاسد، كتخفيف الضرائب أو تقليل الرسوم ونحوه، ويعلم أطرافه أن العلاقة الشرعية تنشئها الاتفاقات الحقيقية بينهم، بل لعل هذا المعنى كان معتبرًا عند تأسيس هذه الشركة في الأصل. فقد تقرر تسجيل شركة توصية بسيطة (من ملاك المدرسة) لتكون أمام وزارة التعليم هي الجهة المستأجرة للمدرسة، وذلك لإمكان صرف جزء من إيرادات المدارس إلى الشركاء في شكل قيمة إيجارية سنوية للأرض والمباني (المملوكة لهم) يسدد لهم! فالمؤجر والمستأجر شخص واحد، وليس في الحقيقة إيجار، اللهم إلا السعي للمحافظة على أصول المشروع والتخفيف من الضرائب.
• ومنها: أن الشريك الذي يباشر إدارة الشركة لم ينبه بقية الشركاء إلى هذا البند الجديد الذي أضافه، والذي يتعلق بفردية الإدارة وإقصاء الشركاء. فلم يضع هذا البند مثلًا داخل دائرة حمراء، ويرسله في رسالة إلى بقية الشركاء، ينبههم فيها إلى هذا التغيير في العقد الجديد؛ حتى لا يؤخذوا على غرة، أو تؤخذ توقيعاتهم وهم غافلون، اعتمادًا على الثقة المفرطة فيه، وهو يعلم أن الناس لا يلقون بالًا لعقود تسيير الأعمال، كان عليه أن يفعل ذلك لو أراد الاحتجاج بهذا العقد، ولكنه لم يفعل.
• ومنها: أن القيود المفروضة على مجلس الإدارة في العقد العرفي (كمنع الإدارة منح أنفسهم رواتب أو مكافآت، أو التصرف في أموال المشروع إلا بإذن مجموع ثلثي الشركاء) تُعدُّ من قواعد العدالة العامة التي توافق الظاهر، والأصل في كل من الشريعة والقانون، بل من البدهيات التي يكلف من يدعي خلافها إقامة الدليل القاطع على ذلك؛ لأنه قوله على خلاف الظاهر وخلاف الأصل، وقد ظهر سوء استخدام هذا العقد الجديد في الحصول على مخصصات مالية مفرطة بدون علم الشركاء وبدون إذنهم، وهي مخصصات يتفق أهل الخبرة في هذا المجال على خروجها عن سنن القصد، حتى فاق راتب الناظر رواتب وكلاء المدرسة الثمانية، وفاقت رواتب ثلاثة من الإدارة رواتب العاملين في المدرسة جميعًا، الأمر الذي صدم به جميع الشركاء، وفجعوا فيمن كان بالأمس القريب موضع ثقتهم بلا حدود، وأجمعت كلمتهم على أنهم أخذوا على غرة، وأنهم لم يعلموا بذلك طوال هذه السنوات، وأنهم فور علمهم أجمعت كلمتهم على رفضه واعتباره باطلًا.
• من جانبي أتفهم موقف الشريك المنازع في مرجعية العقد الأول؛ لأن هذا العقد هو المخرج الأخلاقي الوحيد الذي يبرر به تجاوزاته المالية، فإذا سقط اعتباره ومرجعيته تحولت الخصومة من خصومة إدارية إلى خصومة أخلاقية، تتعلق بالذمم والأمانة وطهارة اليد، ويقيني بأن جميع الشركاء لا يقدحون في عرض الشريك المدير، ولا يشككون في نزاهته وطهارة يده، وأن مرد الأمر إلى سوء التأويل والخطأ في التقدير، ولكن الشجاعة والديانة في الرجوع إلى الحق، وليس في التمادي في الباطل.
فالذي يظهر لي أن العقد الشرعي الذي ترد إليه الأمور هو العقد الأول الذي التقت عليه إرادة جميع الشركاء، وتواثقوا عليه، وبني عليه تأسيس الشركة، وأن كل ما تم على خلافه فهو باطل، ويلزم رد جميع المخصصات المالية التي صرفت على خلاف هذا العقد بدون علم الشركاء وإذنهم؛ إلا إذا اتفق الشركاء مجتمعين على التنازل عنها وطابت بذلك نفوسهم.
بقيت مسألة أخيرة لا ينبغي أن تكون موضع نزاع: وهي حق أغلبية الشركاء منذ اكتشفوا ذلك في إلغاء عقود عمل الإدارة الحالية، ولا يحتاج ذلك إلى التحكيم، إلا إذا قلت: إن إلغاء عقد مدرس من المدرسين أو موظف من الموظفين يحتاج إلى إعلان النفير العام، ودعوى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لاجتماع طارئ، فالإدارة الحالية موظفة لدى الشركاء، ولا علاقة لعقد توظيفها بالعلاقة التي تكون بين الشركاء باعتبارهم شركاء، فهذا عقد توظيف منفصل؛ حتى لا تؤثر المنازعة حوله أو حتى إلغاؤه على العقد الأصلي للشركة، هذا هو الذي نص عليه الفقه، وأخشى أن يكون الإصرار على خلاف ذلك إصرارًا على الباطل، وتقوُّلًا على الله بغير علم، وحكمًا بغير ما أنزل الله.
قد يكون للنظر مساغ في التحكيم لتسوية الأمور المالية في المرحلة الماضية، أما الإصرار على المضي في ذلك في المستقبل، فهو الأمر الذي لا ينقضي منه العجب! كيف يفرض عامل من العاملين أو موظف من الموظفين بقاءه في العمل وقد سخط رب العمل عمله، ولم يعد يثق في مناسبته له؟! المشكلة المزمنة هي الخلط بين عقد الشركة وعقد الإجارة، إذا انحلت هذه العقدة انحلت العقد كلها.
الولاية في هذه الشركة ليست ولاية عامة، بل هي ولاية خاصة، وصاحب المال هو صاحب الحق في القرار، بما لا يخالف قواعد العدل، وليس منها بقاء الموظف إلى الأبد. هب أن موظفًا لدى مؤسسة خاصة قد استثقل صاحب العمل ظله، ولم يعد يطيق رؤيته، هل في الشريعة أو القانون ما يلزمه ببقائه على رأس العمل ليكون مصدر قلق ونكد له في الصباح وفي المساء؟! بل حتى في الولايات العامة يعتبر في كثير منها هذا المعنى، وقد علمتم بما جاء في السنة عمن أمَّ قومًا وهم له كارهون! كقوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ»(3).
قال الشوكاني: «وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضًا فينتهض للاستدلال بها على تحريم أن يكون الرجل إمامًا لقوم يكرهونه»(4).
ولا يخفى أنه حتى على المستوى السياسي العام إذا حامت الشبهات حول أحد القيادات التنفيذية أو السياسية؛ فإنه يقدم استقالته بنبل؛ لكي يتيح لنفسه وللجهات المتابعة التحقيق في الأمر، وإثبات براءته على الملأ، ثم ينظر بعد هذا في مدى أهليته لاستعادة المنصب أو لا، ومثل هذا لا يغيب عن فطنة الشركاء جميعًا.
اللهم اهدنا جميعًا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، ولا تجعل بأس إخوتي بينهم، واحملهم جميعًا في أحمد الأمور عندك وأجملها عاقبة يا رب العالمين، اللهم آمين. والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________
(1) «إعلام الموقعين» (3/94).
(2) «إعلام الموقعين» (3/ 95-96).
(3) أخرجه الترمذي في كتاب «الصلاة» باب «ما جاء فيمن أم قومًا وهم له كارهون» حديث (360) ، وقال الترمذي: «حديث حسن».
(4) «نيل الأوطار» (3/217).