ذكرتم في فتوى سابقة أن العصيان المدني لا يعني انتهابَ الأموال العامة، أو الانتفاع الشخصي بها بحُجَّة العصيان المدني، ولكن لا يزالُ سؤالنا حول كيفية التعامل مع المال العام في ظلِّ التوجه إلى العصيان المدني، في حالة عدم الاعتراف بسلطة الدولة لقيامها على انقلاب غاشم، واغتصاب ظالم للسلطة، وتصريفها للمال العام في قتلِ شعبها، واستلاب حقوقه، وإراقة دمائه، وسرقة أمواله، وسجن صفوته وخيرة رجاله. أفتونا مأجورين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد عرَّفنا في الفتوى السابقة بالعصيان المدني، وأشرنا إلى أهم ملامحه عند من كتبوا فيه من خُبراء السياسة، ثم أكَّدنا على حُرمة المال العام، وأنه لا يجوز لأحد أن ينتهز اضطرابًا سياسيًّا قائمًا لتحقيق مغنمٍ شخصيٍّ على حساب هذه الأوضاع البائسة، وقد حرصتُ على الوقوف عند هذا القدر، ليستقرَّ هذا المعنى أولًا، قبل أن نُواصل الحديث عن المقصود الأصلي من السؤال، وهو كيفية التصرُّف في الأموال العامة في أزمنة جَوْرِ الولاة أو بغيهم أو انعدام شرعيتهم، وهذا الذي سننتصب للحديث عنه في هذه الفتوى بإذن الله، فنقول وبالله التوفيق:
المالُ في أيدي الولاة أمانةٌ عندهم، وليس لهم منه إلا جبايتُه من أهله، وإنفاقه في أهله على وزان الشريعة ومعاييرها، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ؛ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ»(1). وفي رواية عند أبي داود صححها الألباني رحمه الله: «مَا أُوتِيكُمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا أَمْنَعُكُمُوهُ؛ إِنْ أَنَا إِلَّا خَازِنٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ»(2).
قال ابن حجر في «فتح الباري»: «قوله: (مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ) في رواية أحمد عن شريح بن النعمان عن فليح في أوله: (واللهُ الـمُعْطِي). والمعنى: لا أتصرف فيكم بعطيةٍ ولا منعٍ برأيي، وقوله: (إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ). أي: لا أُعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا إلا بأمر الله، وقد أخرجه أبو داود من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ (إِنْ أَنَا إِلَّا خَازِنٌ)»(3).
والتخوض في هذا المال بغيرِ حق كبيرةٌ من الكبائر، فعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ الله بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4).
قال ابنُ حجر في «فتح الباري»: «قوله: (يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ الله بِغَيْرِ حَقٍّ). أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل»(5).
ومن أجلِ هذا فإنه في زمن جَوْرِ الأئمة، وتخوضهم في مال الله بغير حق، فإن آحاد الرعيَّة مُسلَّطون على ما تنالُه أيديهم منه لإيصاله إلى حقِّه، وليس لانتهابِه واغتنامِه.
وقد عقَد العزُّ بن عبد السلام رحمه الله في كتابه الماتع «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» فصلًا خاصًّا بهذه المسألة تحت عنوان: تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جَوْر الأئمة، فقال رحمه الله:
«لا يتصرف في أموال المصالح العامة إلا الأئمةُ ونوابُّهم، فإذا تعذَّر قيامُهم بذلك، وأمكَن القيامُ بها ممَّن يصلح لذلك من الآحاد بأن وجَد شيئًا من مال المصالح، فليصرف إلى مستحقيه على الوجه الذي يجبُ على الإمام العدلِ أن يصرفه فيه، بأن يُقدِّم الأهمَّ فالأهم، والأصلح فالأصلح، فيصرف كلَّ مال خاص في جهاته أهمِّها فأهمها، ويصرف ما وجده من أموال المصالح العامة في مصارفِها أصلحِها فأصلحِها، لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالحُ صرف تلك الأموال إلى مستحقيها، ولأثم أئمة الجَوْرِ بذلك وضمنوه، فكان تحصيلُ هذه المصالح ودرءُ هذه المفاسد أولى من تعطيلها.
وإن وَجَد أموالًا مغصوبة، فإن عرف مالكيها فليرُدَّها عليهم، وإن لم يعرفها فإن تعذرت معرفتُهم بحيث يئس من معرفتهم صرَفَها في المصالح العامة أوْلَاها فَأَوْلاها، وإنما قلنا ذلك لأن الله قال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، وهذا برٌّ وتقوى.
وقال صلى الله عليه وسلم: «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»(6). وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»(7). وإذا جوَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف(8)، مع كون المصلحة خاصة- فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى، ولاسيما غلبة الظلمة للحقوق.
ولا شكَّ أن القيام بهذه المصالح أتمُّ من ترك هذه الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها، ويصرفونها إلى غير مستحقها.
ويحتمل أن يجبَ ذلك على من ظفَر به كمن وجَد اللقطة في مضيعة، وإذا جوز الشَّرع لمن جُحِدَ حقُّه أن يأخذ من مال جاحده إذا ظفر به إن كان من جنسه، وأن يأخذه ويبيعه إن كان من غير جنسه، مع أن هذه مصلحة خاصة فجواز ما ذكرناه مع عمومِه أولى.
وقد خَيَّرَ بعضُ أصحاب الشافعي واجِدَ ذلك بين أن يصرفه في مصارفه وبين أن يحفظَه إلى أن يلي المسلمين من هو أهلٌ يصرف ذلك في مصارفه، وينبغي أن يتقيَّد- بما ذكره بعض الأصحاب- بوقت يتوقع فيه ظهور إمامٌ عدل.
وأما في مثل هذا الزمان المأيوس فيه من ذلك فيتعيَّن على واجده أن يصرفه على الفورِ في مصارفه، لما في إبقائه من التغريرِ به وحرمان مستحقِّيه من تعجيل أخذه، ولاسيما إن كانت الحاجةُ ماسةً إليه بحيث يجب على الإمام تعجيلها»(9).
وصفوة القول في هذا النقل أن سلطانَ العلماء قد جعل للعامَّة ولايةً جُزئية في إنفاق المال العام على وجهه، وتوجيهه إلى مصارفه الشرعية، استخلاصًا له من جَوْر الأئمة وظلمهم، متى تمهَّد سبيلٌ آمن إلى ذلك، وأكد على فورية إيصال هذا المال إلى مستحقيه عند اليأس من وجود إمام عادل يُسلم إليه هذه المال، فقال رحمه الله: «وأما في مثل هذا الزمان المأيوس فيه من ذلك فيتعيَّن على واجده أن يصرفه على الفور في مصارفه، لما في إبقائه من التغرير به وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه، ولاسيما إن كانت الحاجة ماسة إليه بحيث يجب على الإمام تعجيلها».
ومن خلال هذا النقل عن سلطان العلماء يتبين لنا مَعلم من معالم الحق في هذه القضية الشائكة، فالمال العام كما سبق في يدِ الولاة ليس ضيعةً خاصةً ينتهبونها كما يشاءون، وإنما هم وُكلاء في هذا المال، وخازنون له، ليضعوه حيث أمرهم الله ورسوله، فإذا استخدموا هذا المال في غير ما أُجيز لهم أن يستخدموه فيه، وجعلوا منه أدواتٍ لصيالهم على الأمة، واستباحة حرماتها، وأمكن استخلاص جزء من هذا المال، وتصريفه في مصارفه الشرعية، وتوجيهه إلى أهله ومستحقيه، بعيدًا عن عبث هؤلاء واستطالتهم، بغير فتنةٍ ولا مفسدة راجحة- فقد صار هذا هو الأصل الذي لا ينبغي أن يعدل عنه في ظل هذه الظروف.
فمن كانت يده تنال شيئًا من هذا المال، وأمكنه استخلاصه للأمة، وتقليبه في مصارفه الشرعية، والحيلولة بينه وبين أن يكون أداةً للصيال عليها، ومظاهرة خصومها على حربها، فلا تثريب عليه في ذلك، وما هو على ذلك بملومٍ، بل نرجو أن يكون سعيُه مشكورًا، وأن يكون عمله مبرورًا بإذن الله.
فإذا انتقلنا بهذه القواعد إلى حيِّز التطبيق العملي في هذه النازلة فإننا نتساءل: إن هذه المرافق تُشرف عليها جهات حكومية، ولها وسائلها في إلزام عملائها بالوفاء بالتزاماتهم، وأدنى ذلك أن تقطع عنهم هذه الخدمة، ثم تحولهم إلى القضاء، فكيف السبيل إلى تفادي دفع هذه الأموال في ظل هذه الأوضاع، مع وجود هذه الإجراءات التقليدية التي تلجأ إليها النُّظم قاطبة لاستيفاء حقوقها وحمل الناس على بذلها؟ وهل نحن أمام سؤال نظري بحتٍ لا ينبني عليه عمل؟ إن كان ذلك كذلك، فكل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلُّف الذي نهينا عنه. وهب أنه كان لبعض الناس سبيلٌ آمن إلى ذلك، فإن الجواب عن ذلك يتوقف على مدى القدرة على ضبط ذلك، واعتباره تبعةً لا تبرأ الذمة إلا بأدائها، أو إنفاقها في المصالح العامة التي كان سينفق في مثلها الأئمة العدول.
وإذا كان الفلول ومن دار في فلكهم يتخوضون في مال الله بغير حق، ويحولون المال العام إلى ضيعة ينتهبونها فيما بينهم، فإن العاملين لنصرةِ الدين لا يستبيحون ذلك، وينبغي أن يكونوا أشدَّ الناس احتياطًا في ذلك، فإن ما عند الله لا ينال بمعصيته.
إن الذريعةَ إلى الاستهانة بهذه الأموال عند حبسها ذريعةٌ قريبة، وقد ينشأ بيننا من يُستَخفُّ ببذل الحقوق لأصحابها، وأداء الأمانات إلى أهلها، ولا نريد أن يكون الترخيص في ذلك ذريعةً إلى إشاعة خُلُقٍ بغيض، وعادة مرذولة؛ لاسيما إذا علم أن المنتسبين إلى العمل الإسلامي أخلاطٌ من الناس، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، فهو يضمُّ قاعدةً عريضة من البشر، وهم كغيرهم من البشر: منهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بإذن الله.
فمع التأكيد على كل ما سبق، ومع تحقُّق الشروط المشار إليها وهي أمن العقوبة، وأمن الفتنة، والمقصود بأمن الفتنة في هذا المقام أن لا يُساءَ قراءةُ هذا الموقف وأن لا يشار به إلى العمل الإسلامي باللُّصوصية والانتهاب؛ لاسيما في ظل إعلام يخطف الأذهان، ويزيف الوعي، ويطمس الحقائق، ويتسنَّم ذُروتَه كذبُه على الله ورسوله، ويمارسون من الفُجر في الخصومة، ومن التخوُّض في أوحال الكذب والبهتان، والتماس العيب للبُرءَاء، ما يعجز عنه أفجرُ الشياطين، وأشدهم على الرحمن عتيًّا!
أقول: مع التحقق من ذلك كله، فإنه يمتهَّد سبيلٌ إلى استخلاص هذه الأموال للأمة، وتحويلها إلى مصارفها الشرعية. والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «فرض الخمس» باب «قوله تعالى: فأن لله خمسه وللرسول» حديث (3117).
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «الخراج والإمارة والفيء» باب «فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنه» حديث (2949)، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2949).
(3) «فتح الباري» (6/218).
(4) أخرجه البخاري في كتاب «فرض الخمس» باب «قول الله تعالى: فإن لله خمسه وللرسول» حديث (3118).
(5) «فتح الباري» (6/219).
(6) أخرجه مسلم في كتاب «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» باب «فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر» حديث (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «كل معروف صدقة» حديث (6021) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(8) ففي الحديث المتفق عليه: الذي أخرجه البخاري في كتاب «النفقات» باب «إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف» حديث (5364)، ومسلم في كتاب «الأقضية» باب «قضية هند» حديث (1714)، من حديث عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال: «خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». واللفظ للبخاري.
(9) «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» للعز بن عبد السلام (1/70-71).