السؤال الأول: هل صلاةُ الجمعة مفروضة على المحبوسين؟
علمًا بأن الدستور الأمريكي ينصُّ على حرية التديُّن كحق أساسي من حقوق المواطنين، وأن سماعهم إلى الخطب يرقق قلوبهم ويحسن أخلاقهم ويسهم في إصلاحهم؟
السؤال الثاني: السجناء المسلمون في ولاية ميتشغن يشتكون أنهم لا يقدم لهم لحوم حلال وفقًا لمعتقداتهم الإسلامية؛ ولقول الله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ [المائدة: 1]. ولما طالبوا بهذا أسوةً بالمسجونين اليهود اقترح المسئولون المختصون في مصلحة السجون في الولاية المذكورة وجبةً نباتية تحتوي على السعرات الحرارية التي يحتاجها الجسم، وسمو هذه الوجبة وجبة دينية، ويزعمون أنها ستطبق على جميع أتباع الديانات، فهل يجوز أن يسموا هذه الوجبة «وجبة دينية»؟ وهل يجوز للمسلمين أن يقبلوا أن يُحرَموا من أكل اللحوم التي أحلها الله لهم؟
علمًا بأنه قد صدرت قرارات قديمة لصالح المسجونين اليهود بتوفير وجبة لحم كوشر، ولما طالب المسلمون بأن يعاملوا بالمثل، هناك جهات ما اقترحت الوجبة النباتية والتي سموها بالوجبة الدينية، ونتوقع أن المسجونين اليهود قد يعترضون على هذه الوجبة النباتية وسيطالبوا بأن لا تطبق عليهم لوجود قرارات سابقة لإعطائهم اللحم الكوشر الذي يتمتعون به بالفعل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الجمعة كغيرها من سائر التكاليف الشرعية إنما تجبُ عند القدرة، ويرخص في تركها عند العجز، فمن أمكنه حضورها كما لو أقيمت بالسجن إن كان به مسجد جامع، أو أذن بإقامتها وتهيأت إقامتها ولو لم يكن به مسجد جامع فيتعيَّن على المكلف سجينًا كان أو غيره السعيُ إليها، لدخوله في عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9].
قال ابن حزم: «و سواء فيما ذكرنا- من وجوب الجمعة- المسافرُ في سفره والعبد والحرُّ المقيم، وكل ما ذكرنا يكون إمامًا فيها، راتبًا وغير راتب، ويصليها المسجونون، والمختفون ركعتين في جماعة بخطبة كسائر الناس، وتصلى في كل قرية صغرت أم كبرت، كان هناك سلطان أو لم يكن، وإن صليت الجمعة في مسجدين في القرية فصاعدًا جاز ذلك»(1).
و جاء في «طبقات الشافعية الكبرى» أن الإمام أحمد رحمه الله كان يُصلي بأهل السجن عندما سجن في فتنة القول بخلق القرآن، وكان يقول: «إني كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد»(2).
و كان الإمام البويطي رحمه الله وهو في الحبس بسبب هذه الفتنة يغتسل كل جمعة ويتطيب ويغسل ثيابه، ثم يخرج إلي باب السجن إذا سمع النداء، فيردَّه السجَّان، ويقول: ارجع رحمك الله، فيقول البويطي: «اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني»(3).
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ببلاد الحرمين هذا السؤال: هل تجب صلاة الجمعة على كل مسجون، سواء كان مسجونًا لمدة معينة أو معتقلًا لمدة لا يعلمها، حيث إني سمعت أن الحرية شرط من شروط وجوب الجمعة؟
فكان الجواب: إذا أقيمت الجمعة داخل السجن أو في غيره، واستطاع أداءها فتجب عليه، وإذا لم يستطع أداء الجمعة فيصليها ظهرًا.
وأما الحرية التي يذكرها الفقهاء شرطًا في وجوب الجمعة فمرادهم الحرية من الرِّقِّ؛ لأن المملوك لا تجبُ عليه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وإذا منع المسجون من الخروج إلى الجمعة، وكان لا يستطيع دفعُ ذلك، فهو معذور بالإكراه، أما إذا كان يمكنه دفع هذا الحبس ابتداءً، كالمدينِ الغني المماطل المحبوس في دينه، فإنه يأثم مرتين: مرة بسبب المماطلة، لأن «مَطْل(4) الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»(5)، وأخرى بسبب تخلُّفه عن الجمعة التي منع منها بسبب حبسه. أو كانت لديه من الوسائل القانونية المشروعة ما يُمكِّنُه من دفع هذا المنع، فإنه يأثم بالقعود عن هذه المطالبة، لأن ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب، وعلى الجالية المسلمة والمراكز الإسلامية إعانتُه على ذلك، والتضامن معه، ورفع مظلمته إلى الجهات المعنية التي تنظر في أمره، وينتظر منها أن تُنصِفَه، وتأثم إن قعدت عن ذلك.
وعلى هذا فإذا كان دستور هذا المجتمع ينصُّ على حرية العقائد والشعائر، ويتيح للمسجون أن يقيم شعائر دينه، ويحمى حقه في ذلك، فيتعين عليه المطالبة بتمكينه من ذلك، ويأثم بالقعود عن هذه المطالبة، ويأثم مَن تخلَّف عن إعانته وهو قادر على ذلك، لاسيما مع ما ثبت يقينا من الأثر الفعال والبالغ لإقامة هذه الشعائر على سلوك المسجونين، وإعادة تأهيلهم للاندماج الإيجابي في هذا المجتمع، وإماتة الدوافع الإجرامية لديهم، وتلك هي رسالة السجن ابتداءً، فكل أنظمة العالم تتفق على أن السجن مكان للإصلاح والتقويم، وأن هذه هي رسالته، ففي هذه المطالبة مصلحة للمسجون، ومصلحة للمجتمع، ومصلحة للدولة، وتحقيق لمقصود تشريعاتها العقابية.
وما ذكرناه في هذا السؤال ينطبق على السؤال الثاني كذلك، فحيثما أمكن المطالبة باللحم الحلال، وكان في القوانين فُسحة لذلك، فلا حرج عليه في المطالبة بها، وينبغي للمراكز الإسلامية والجاليات الإسلامية إعانتُه على ذلك، فإن عجز عن ذلك قنع بالوجبة البديلة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وتسمية هذه الوجبة النباتية وجبةً دينيةً مسألة اصطلاحية، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وكون هذه الوجبة مشروعة في كل الملل لا يمنع من المطالبة بغيرها، مما يكون أنفع للبدن، وأقومُ بالصحة، ولا يوجد في القوانين مانع منه، ولا ينبغي أن ييأس من هذه المطالبة، إذ لا يضيع حق وراءه مُطالِب.
ومنظومة القوانين في هذا البلد تحمي هذه الحقوق، وتشجع على المطالبة بها، ولكن قد يتراخى عن المطالبة بها بعض الناس بسبب الجهالة أو العجز، وشفاء العِي السؤال(6). وشفاء العجز الاستعانةُ بالله؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «استعن بالله ولا تعجز». والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) «المحلى» (3/252-259).
(2) «طبقات الشافعية الكبرى» (2/44).
(3) انظر «طبقات الفقهاء» (1/110).
(4) تأخير سداد الدين من غير عذر.
(5) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس» باب «مطل الغني ظلم» حديث (2400)، ومسلم في كتاب «المساقاة» باب «تحريم مطل الغني وصحة الحوالة واستحباب قبولها إذا أحيل على ملي» حديث (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) أخرج أبو داود في كتاب «الطهارة» باب «في المجروح يتيمم» حديث (336) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا في سفر فأصابَ رجلًا منا حجرٌ فشجَّه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ الله؛ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ». وذكره ابن الملقن في «البدر المنير» (2/ 615) وقال: «هذا إسناد كل رجاله ثقات». وحسنه الألباني في «مشكاة المصابيح» حديث (531).