نحن نعلم أن القرآن من عند الله ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه(1)، ولكن قد يتسلل الشيطان إلى قلب مسلم سليم بشبهة ما، وهنا لابد أن نُعيد إلى القلب سلامته فنسأل أهل العلم، وتذهب الشبهة ويعود أقوى من قبلُ إيمانًا.
وأحد هذه الشبهات: يحاول البعض أن يدس بسُمِّه في قلوب المسلمين بأن قصة جرت للرسول ﷺ، ما تُعرف بقصة الغرانيق، فبعض المسلمين ينكر القصة أساسًا، والبعض يقول: إنه حدثت أحداث هذه القصة. فما هو الأرجح بين هذين الرأيين؟ وهل يمكن للشيطان أن يتسلل إلى قلب النبي أو يوسوس له أو يُجري على لسانه بعض الكلمات؟ وما معنى الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: 52] وأريد بذلك معنى أمنيته؟ وما المقصود منها؟ وما هو الذي يجوز والذي لا يجوز على الأنبياء من مكائد الشيطان؟
__________
(1) قال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن أصلَ هذه القصة صحيح(1)، ولكن الباطل فيها ما يُروى من أن النبي ﷺ قال عن أصنام المشركين: وإنه الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. بل الصحيح أن الشيطان هو الذي ألقى بهذه الكلمة على المشركين مقلدًا صوت النبي ﷺ، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته، وبيَّن بطلان هذه المقولة.
وما يروى بخلاف ذلك فهو كذب ومنحول، وتعدد طرق رواية هذه القصة لا تزيدها إلا ظلامًا وضعفًا؛ لأنه ما من طريق من طرقها إلا وفي إسناده كذاب أو منكر الحديث، وقد ثبت بالإجماع عصمة النبي ﷺ فيما يتعلق بالوحي تحملًا وأداء، فلا يشغب على هذا الأصل بمثل هذه الروايات الساقطة. والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) حقَّق القاضي عياض تلك القصة في كتابه «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» (2/124)، وذكر رواياتها وضعفها رواية ودراية من وجوه كثيره فليرجع إليه.