شيخنا الجليل، أبعث إليكم بمشكلة عويصة بالنسبة لي وغريبة أيضًا.
أنا فتاة أبلغ من العمر 23 عامًا، أنا والحمد لله طبيبة دخلت كلية الطب لا لشيء إلا لأني لم أر فيها إلا علاج المرضى الفقراء، لم أر فيها شيئًا آخر غير هذا، فقلت: أنا حين أختار لا أختار شيئًا إلا الله حتى يكون مقبولًا.
وذاكرت بعزم واجتهاد آملة أن هذا في رضا الله، ووفقني الله بدرجات مرتفعة جدًّا، وكنت من الأوائل، وكنت قريبة جدًّا من الله هادئة إلى حد ما بارة بأمي على حد ما، وكنت سعيدة أحلم بأني أعالج المرضى في الشيشان وفلسطين وأحاول تحسين نفسي وأخلاقي.
ولما كنت في الـ16 من عمري تقدم لي أول خاطب، فما حدث أنني صرخت وبكيت وقلت: لا أريد أن أتزوج.
فأنا لم أكن رافضة للمبدأ، ولكن فقط لا أدري كان همي أن ينزاح هذا الأمر عني، وحاولت أمي إجباري على الموافقة عليه ولكن في النهاية بعد معاناة انصاعت لي ورفضته، وهنا نسيت هدفي الذي أنا مستمتعة به وقنطت من ربي ودخلت في فترة اكتئاب وأنا لا أدري، وهجرت القرآن وساء طبعي وكنت أشبه الميتة.
وقرأت في كتب علم النفس عن الأسباب، المهم أنني دخلت في دوامة لمدة ثلاث سنوات وأنا في حالة تدهور مستمر في دراستي، إلى أن تقدم لي شاب آخر في نظر من حولي أكثر من رائع وأصرت عليه أمي بشدة بحجة أنه سيتحملني ويتحمل طبعي الكئيب؛ لأنه إنسان مطيع يريد إنسانة تشكله على رأي والدته.
فما كان مني إلا أن صرخت وبكيت ودخلت في حالة من النحيب المستمر والأرق وعشت حالة من الصراع النفسي، فأنا أكرهه والضغط كثير، وشعرت كأني أعصي الله ويكأنه أمر إلهي وقدر مقدور علي وأنا أقول: «لا» لربنا.
وساء خلقي مع أمي؛ فأنا أعارضها، وأخي كان يحاول تهدئة الأمور، وتحول البيت إلى حلبة للصراع بين أم خائفة على بنتها وتراه عريسًا مناسبًا من جميع النواحي وتخشى علي من أن يكون نصيبي مع إنسان مثل أبي : أذاقنا الويلات واكتشفنا بعد مماته أنه كان أشبه بالمريض النفسي يعاني من نوع من اضطرابات الشخصية، ويبدو أنني أيضًا أعاني من نوع من اضطرابات الشخصية مثل أبي.
ولكني بحمد الله بقراءة القرآن والصلاة وبأمي الطيبة تحسن حالي إلى حد كبير عما كنت منذ عشر سنوات، ولكن أمي لا تريد الاعتراف بأني أعاني من هذا الأمر وكذلك أخي الأكبر الذي يرى أني بالإسلام أستطيع أن أقوم نفسي.
المشكلة أنني بعد أن رفضت هذا الشاب الحمد لله عدت كما كنت سعيدة هادئة إلى حد ما وتذكرت هدفي وأقبلت على الله وعزمت أن أكرس حياتي لهذا الهدف، ونظرت في قدراتي التي أعطاها الله لي فوجدتها حسن تعامل مع المجتمع الخارجي ورحمة بالمرضى وحب بذل المال، وصرت سعيدة غير أني أخشى ما أخشاه أن يتقدم لي أناس آخرون، فأنا لا أريد أحدًا.
إذا كانت أمي الرائعة أعاني معها من صعوبات في التعامل وأجاهد نفسي حتى أتعامل معها بلطف على قدر الاستطاعة فمما زاد الطين بلة أنها تركتني وأنا عمري 3 أشهر مجبرة عند أهلها ثم عادت مرة أخرى وأخذتني وأنا بنت 6 سنوات، فلم يكن طوال هذه المدة ثمة اتصال قوي كاتصال الأم بابنتها، ولكن فرض علي أن أحسن إليها وأقسم بالله العظيم يا شيخ أنه ينتابني الحزن حين أخطئ في حقها؛ فأنا أعاني وأبكي وأعود وأعتذر.
فكيف بي بزوج يلازمني طوال العمر وأهله وأبناء مسئولين مني، فأنا أمام أمرين: إما أن أعيش مقهورة ذليلة، وهذا لا أرضاه ولا أريد أن أعيش تجربة أبي مرة أخرى والمعاناة النفسية التي عانيت بسببها، وإما أن أصير وبالًا على أناس لا ذنب لهم سوى أن ابنهم اختارني زوجةً له.
فعزمت على ألا أتزوج، فليس لي رغبة على الإطلاق، ولكن ما يؤرقني أنني أشعر أنني أعصي الله وأنني على وشك الخروج من الملة بهذا الأمر الغريب، ولكن أليس الله قال: {﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
سيدي لا أطيق، وينتابني الكدر من هذا الأمر، لا أريد أن يكون نوع من الارتباط بيني وبين رجل لمجرد أنه واجب ديني أؤديه وأعيش كالآلة إلى أن أموت، والله إنني حينما أدعو بالزوج الصالح أشعر بالبعد عن الله، وحينما أكف وأبدأ الدعاء بالخلق الحسن والجنة والهداية يهدأ بالي ويسعد خاطري.
الكل يحسدني على جمالي ومالي ومركزي ومركز عائلتي، لكن لا أحد يدري ما بي من نقص حاد في العقل، فأنا طفلة عنيدة في هيئة فتاة عمرها 23 سنة، ويا للأسى أعلم أن الزمن جزء من إصلاح نفسي، وأنا أَكِلُ أمري إلى الله، وأمي وأخي لا يريدان أن يعترفا بأني غير قادرة على التواصل مع الجنس الآخر بشكل جيد وأنني أعاني مما يعاني منه أبي، لا أريد أن أصير مثل أبي جحيمًا على أبنائي وزوجتي وبردًا وسلامًا على من يتعاملون معي لفترة قصيرة؛ فالكل كان يقول: إن أباكِ كان رجلًا طيبًا.
لا أريد أن أتحمل ذنب إنسان آخر أكون مجبرة على معاملته، الأمر الوحيد الذي أنا مجبرة على تأديب نفسي لأجله هو أمي، وأنا أعاني في سبيل هذا معاناة شديدة لا يعلمها إلا الله، لا أريد أن أعاني، أنا أقرب بمن ينتظرون الموت حتى أنهي هذه الصراعات النفسية التي بداخلي، فلا أدري هل هذا حرام أم حلال؟ هل الزواج فريضة ومن يتركها يصير آثمًا إثمًا كبيرًا ولا يرضى الله عنه؟
أرجو الإفادة؛ فأنا في أشد الاحتياج للمساعدة والدعاء، وآسفة للإطالة ولكني بحاجة لأحد من أهل العلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
الزواج يا بنيتي تعتريه الأحكام الخمسة؛ فقد يكون واجبًا لمن خشي على نفسه العنت، وقد يكون حرامًا في حق من تيقن من ظلم شريك حياته، ويكون مكروهًا لمن غلب على ظنه ذلك، فليس هناك من حرج شرعي في تمهلك في الزواج حتى يجعل الله لك فرجًا ومخرجًا.
والحل يا بنيتي أن تأتمري بالمعروف مع والدتك حتى تقف على حقيقة المشكلة ثم يستعان في ذلك بعد الله عز و جل بطبيب نفسي ثقة يكون صاحب دين بحيث يعينك في هذه المحنة.
والاضطرابات النفسية ليست دائمًا مردها إلى فتور إيماني؛ فقد يكون مردها إلى نقص بعض الكيميائيات التي يتم تعويضها من خلال الطب النفسي؛ فاستعيني بالله تعالى وداومي على ذكره وشكره وحسن عبادته وحسني الظن به والزمي الدعاء والضراعة والاستكانة.
والله المستعان وعليه التكلان، واحذري من القنوط من رحمته أو اليأس من روحه؛ فإنه جل وعلا الحنان المنان اللطيف الخبير الرحيم الودود. والله تعالى أعلى وأعلم.