امرأة متزوجة من مسلم أمريكي يتعاطى المخدرات، ولها منه أولاد، وكثيرًا ما يضربها ويسيء إليها، وبعد أن صبرت عليه كثيرًا طلبت منه أن يطلقها فأبى. فاضطرت لأن تنفصل عنه، وتعيش مع أولادها في بيت منفصل، وبعد مضي ستةِ أشهرٍ تقدمت للمحكمة طالبةً الطلاق. وبالفعل أصدر القاضي أمره بالطلاق، وحكم لها بالأولاد. هل تعتبر المرأة مطلقة وفق أحكام الشريعة؟ وإذا ما تقدم رجل للزواج منها، فهل يجوز لها الزواج منه؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ولاية التطليق في الشريعة المطهرة لا تكون إلا للزوج، أو للقاضي المسلم إذا أمسك الزوج امرأته ضرارًا وامتنع من التطليق، أما غير المسلم فلا ولايةَ له على المسلم في طلاق ولا غيره، فلا ينفذ طلاقه عليه بوجه من الوجوه.
أما ثبوت ولاية التطليق للزوج فهو الأصل الذي لا يعدل عنه إلا لضرورة، فهو المخاطب ابتداء بكل النصوص الواردة في باب الطلاق باعتباره الذي بيده عقدة النكاح، قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة: 237].
وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَلِيُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ الزَّوْجُ».
أما ثبوتُها للسلطان المسلم فلما انعقد له من الولاية العامة على المسلمين، ولما أنيط به من واجب استيفاء الحقوق واستخلاص المظالم، فلو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادعٌ، مع تفنن الآراء، وتفرق الأهواء، لأدى ذلك إلى التنازع والتواثب، وفشوِّ الخصومات، وتبدد الجماعات، ولصار كلُّ أحد مشغولًا بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه، ولا معنى لذلك إلا رفع الدين وهلاك جميع المسلمين، ولا شكَّ أن دفع هذه المفاسد العظيمة من أوجب الواجبات الشرعية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بنصب السلطان المسلم العادل، وعقدِ الولاية العامة له على جميع المسلمين، والتسليمِ بحقه في النظر لهم وإمضاء حكمه عليهم، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: «لابدَّ للنَّاسِ مِنْ إِمَارَةٍ، بَرَّةً كَانَتْ أَوْ فَاجِرَةً». قالوا: يا أميرَ الْـمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ الْبَرَّةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا بَالُ الْفَاجِرَةِ؟! قَالَ: «يُقَامُ بِهَا الْـحُدُودُ، وَتَأْمَنُ بِهَا السُّبُلُ، وَيُجَاهَدُ بِهَا الْعَدُوُّ، وَيُقْسَمُ بِهَا الْفَيْءُ».
أما عدم ثبوت ولاية التطليق لغير المسلم على المسلم فلما علم من دين الإسلام بالضرورة من قطع الموالاة بين المسلم وغير المسلم، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء: 144].
ولا شكَّ أن تولية الكافر أمر القضاء من أبين صور توليه الذي حرمته هذه الآية ونظائرها في القرآن الكريم. والآيات في هذا المعني كثيرة جدًّا، ولقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] أي بأن يسلطوا عليهم في الدنيا، ولا سبيل أعظم من إنفاذ أحكامهم وشرائع دينهم على المسلمين.
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 59].
ففي قوله تعالى: دلالة على وجوب أن يكون ولاة الأمر من المؤمنين؛ لتوجه الخطاب إليهم في الآية من البداية.
ومن ناحية أخرى فقد تقرَّر في قواطع الإسلام حرمةُ التحاكم إلى غير ما أنزل الله، وبينت النصوص أنه نفاقٌ لا يجتمع مع أصل الإيمان، ذلك أن تحكيم الشريعة ضرورة عقدية في المقام الأول لارتباطِه بأصل الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولًا.
فالحجةُ القاطعةُ والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، والتحليل والتحريم والأمر والنهي والتشريع المطلق حقٌّ خالص لله جَلَّ وعلا، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما أوجبه، ولا شرع إلا ما شرعه، فمن نازع الله في شيء من ذلك فقد نازع الله في ربوبيته، ومن ردَّ على الله حكمَه فليس من الله في شيء، وقد انعقد على هذا المعنى إجماعُ الأمة كلها في مختلف الأعصار والأمصار لم يشذَّ عنه على مدى هذه القرون الطويلة فيما نعلم أحد.
يقول شيخ الأزهر في مصر- في معرض جوابه على سؤال وجهه إليه مدير معهد علوم الشريعة الإسلامية بجنوب أفريقيا حول مدى شرعية أن يتولى قاض غير مسلم القضاء في شئون الأحوال الشخصية للمسلمين، ومدى صلاحية حكمه في أي قضية ذات علاقة بالشريعة الإسلامية: «المسلمون إذا كانوا أقليةً في بلد غير إسلامي يرجعون إلى تعاليم الإسلام بتوجيه من علماء المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وكل ما يعرض لهم من أمور دينهم، وإذا عين الحاكم غير المسلم قاضيًا غير مسلم أو محاميًا في شئون الأحوال الشخصية الإسلامية أو من يقوم بإدارة أموالهم لم يجزْ هذا في قول عامة الفقهاء؛ حيث لا يصح أن يتقلد القضاء إلا المسلم المؤهل لذلك بالشروط المقررة لمثله… إلى أن قال: ومن ثم لا يحل للمسلمين التحاكمُ إلى قاض غير مسلم إلا عند الضرورة، وعلى الأقلية الإسلامية في هذه الحال العملُ على الخلاص إما باستقلال أو بهجرة أو بالتحاكم إلى محكمين مسلمين علماء ويرضاهم المتخاصمون، لاسيما في مسائل الحلال والحرام، ومنها أمور الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونسب وميراث، وهذا خير لدينهم ولدنياهم من التحاكم إلى قاض غير مسلم عينه الحاكم.
ابتداءً نَوَدُّ أن نذكر الزوجة بضرورة الصبر على مثل هذا الزوج المبتلى، وبذل أقصى الوسع من أجل استنقاذه من هذه المهالك، وأن تستعين على ذلك بالدعاء وصدق اللجوء إلى الله عز وجل، ثم بمن ترى أهليتَه لذلك من المسلمين؛ فإن من الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية، وإننا لنرجو إذا اطلع الله على قلبها ورأى فيه حرقة الضارعين أن يعينها عليه، وأن ينصرها بإخلاصها على شيطانه.
فإن هي فعلت ذلك ولم يكن ممن كتب الله له الهدى، وكان لابد من السير في طريق الطلاق فقد سبق أن ولاية التطليق لا تثبت إلا للزوج أو للسلطان المسلم إذا أمسك الزوج امرأته ضرارًا وامتنع من التطليق، وعلى هذا فما تصدره المحاكم الأمريكية من وثائق الطلاق لا ينهي رابطة الزوجية من الناحية الشرعية، والأصل هو عدم اللجوء إلى هذه المحاكم إلا عند الاضطرار، لأن التحاكم الاختياري إلى غير ما أنزل الله نفاق لا يجتمع مع أصل الإيمان، وعلى هذا فيجب بذل الجهود في هذه الواقعة لحمل الزوج على التطليق، ولو أن تفتدي نفسها منه بشيء من المال، فإن أخفقت في ذلك فعلى من فوضت إليه جماعة المسلمين في الجالية عقد الأنكحة، والفصل فيما ينشأ في محيط الأسر من منازعات- أن يقوم بتطليقها نيابة عن هذا الزوج المضار؛ حتى تعتد وتحل بعد ذلك لمن أرادت من الأزواج. والله تعالى أعلى وأعلم.
تطليق قاضي غير مسلم امرأةً من زوجها المسلم
تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية: 06 الطلاق