أنا أمٌّ لطفلٍ مصاب بالتوحُّد ومطلَّقة، تنازلتُ عن حضانة ابني لأبيه لأسبابٍ قاهرة سَرْدُها يطول؛ تزوَّجت أنا وتزوَّج الأبُ أيضًا، وابني ما زال مع أبيه، لكن أباه ضاق ذرعًا بابنه.
وقد علمتُ أن أباه ينوي أن يُعطِيَ ابنَه للتبنِّي لإحدى العائلات الأجنبية خارجَ البلاد؛ لأنه حَسَب ادِّعائه لم يجد له مركزًا للتأهيل، علمًا أن أباه قادرٌ مادِّيًّا واجتماعيًّا على رعاية ابنه.
ومشكلتي هي أنني لا أُقيم في نفس بلدِ ابني، حتى إن زواجي هو في الواقع في بلدٍ ثالثٍ، وقد طلبتُ منه مؤخرًا أن يُعيد لي ابني الذي سيكون في رعاية أمِّي في أثناء غيابي، وطلبتُ منه مقابلًا لمركزٍ وتأمين مصاريف الدراسة له، لكنه رَفَض وقال: ما أدراني أن تُعيدي الولدَ إليَّ مَرَّةً أخرى.
وإنني الآن في حاجة إلى حلٍّ جذريٍّ، والحلُّ الجذريُّ بالنسبة له أن يبعثَ بابنه للتبنِّي لعائلة مسيحية أو يهودية، الله أعلم، المهمُّ أن يُبعِدَه عن ناظره وألا يُرهِق زوجتَه بابنه، فهي على ما علمتُ أنها لا تُطيقه، حتى إنها قد فكَّرَتْ أن تَجِدَ له مركز أيتامٍ لتتخلَّص منه.
أنا على استعدادٍ لاستعادةِ ابني، فهو يُعاني نفسيًّا من وَضْعه الجديد وذلك بشهادة أبيه، أودُّ من فضيلتكم إسداء نصحٍ لأبيه ورَدْعِه عن أن يتصرَّف مثل هذا التصرف، كما أرجو معرفة هل يجوز شرعًا للأب أن يبيعَ ابنَه ويهديَه للتبنِّي رغم أن أباه وأمَّه على قيد الحياة؟ كيف سيُقابل ربَّه؟ رجاءً مولانا إسداء النُّصْح له.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإنَّ عهدَنا بالآباء أنهم يُضحُّون بالغالي والنفيس من أجل إسعاد أولادِهم، وتتضاعف هذه التضحيةُ عندما يُصاب الأولاد ببلاءٍ من مرضٍ أو عجز ونحوِه، وتلك عاطفةٌ جِبِلِّيَّةٌ جُبِلَتْ عليها قلوبُ الآباء، سواءٌ أكانوا من بني الإنسان أم كانوا من غيرِهم، ومَن تجرَّد من هذه العاطفة فهو شقيٌّ؛ لأن مَن لا يَرحم لا يُرحم(1).
فننصح صاحبَ هذه النَّازلة أن يُراجع نفسَه، وأن يُقبل على ولده، وأن يغسل باحتضانه له وقيامِه بحقِّه وتضحيته من أجله ما بَدَر منه نحوَه من تفريطٍ وتقصير، وأن يتذكَّر أن ساعاتِ العمر محدودةٌ، وأن هذه الدُّنْيا إلى زوالٍ، وأن حقوقَ العباد لا يتركها الله أبدًا، القِصاصُ لا محالة، فالبدار البدار قبل أن يضيع الأوان، والله جلَّ وعلا يقبل التَّوْبة عن عباده ويعفو عن السَّيِّئات(2).
كما ننصح الأبوين جميعًا أن يأتمرا بينهما في شأن هذا الطفل المُبتلَى بمعروفٍ، وإلا دَفَع هذا الطفلُ المسكين ثمنَ نزاعِ والديه وفسادِ ذاتِ بينِهم، وأن يحتسبا عند الله عز و جل ما يبذلانه في سبيله من جهدٍ ومن وقت ومن مال، وليعلما جميعًا أن اللهَ شكورٌ لا يضيع عنده شيءٌ(3)، وأن ما يُقدِّمانه لنفسيهما من خيرٍ سوف يجدانه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا(4)، وإني لأرجو أن يَجِدَا عُقْبَى ذلك عافيةً في بدنهما وسَعَةً في رزقهما وحسنًا في خاتمتهما.
أما دفعُ الولد للتبني من قبل عائلة غير مسلمة فهذا هو القتل المعنوى! والاغتيال للبراءة والطفولة! فضلًا عن كونه جريمة شرعية، ومجازفة بدين الولد، وحياته كلها حاضرًا ومستقبلًا! فلا يحل ذلك بحال من الأحوال، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ [الأحزاب: 4، 5]. نسأل الله أن يجنب هذا الطفل البريء هذا المصير الأسود المظلم الذي يلوح به والده! واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «رحمة الولد وتقبيله ومعانقته» حديث (5997)، ومسلم في كتاب «الفضائل» باب «رحمته ﷺ الصبيان والعيال» حديث (2318)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَبَّل رسول الله ﷺ الحسنَ بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الوَلَد ما قَبَّلت منهم أحدًا. فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ».
(2) قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].
(3) قال تعالى: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [التغابن: 17].
(4) قال تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المزمل: 20].