لفت نظري في الجمعة الماضية تعليق الرئيس مرسي بعد خطبة الجمعة أمام المصلين، ومع تقديري للمنبر والمسجد والتعليقات الدينية إلا أنني أرى أن هذا لا يتناسب مع مقام الرئاسة شكلًا ومضمونًا، فالرئيس خطابه سياسي وله قنواته الإعلامية الخاصة، وليس منها المساجد فيما أظن. فما تعليقكم على ذلك؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد كان المسجد عبر عصور الإسلام الزاهية محور الارتكاز ونقطة الانطلاق في المجتمع المسلم، ففيه تُقام الشعائر، وفيه يجلس القضاة للفصل بين الناس قبل أن يتخذوا لهم دواوين خاصة بهم، ومنه يُعلن الجهاد، وتنطلق السرايا.
فمن ذا الذي قال: إن المسجد ليس منبرًا للخطاب الرئاسي؟! وهل كانت خطب أبي بكر وعمر ومن تلاهما من الخلفاء الراشدين وسائر ملوك المسلمين إلا في المسجد؟!
إن تهميشَ دور المسجد وحصره في الخطاب الديني البحت، وإقامة الشعائر الدينية البحتة، هو أثرٌ من آثار العلمانية الغازية، التي فصلت بين الدين والدولة وكرست الخصومة بين الدين والحياة.
ولقد نشأت أجيال في بلاد الإسلام تحت حكم العسكر ومظلة العلمانية لا تعرف إلا هذا الفصام النكد، ولا ترى إلا هذه الخصومة المفتعلة بين الدين والدولة، فانقلبت المفاهيم، وأصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا.
فلا تلتفت إلى هذه الجلبة، ولا تُصغِ إلى هؤلاء المشاغبين.
إننا نكبر في رئيس الدولة هذا التواصل المجتمعي والمسجدي مع جماعة المسلمين، ونراه مظهرًا جديدًا لتجليات الثورة المصرية المباركة.
لقد بقيت دواوين الرئاسة وقصورها عقودًا من الزمن لا يُصدَع فيها بكلمة حقٍّ، ولا تُقام فيها شعيرةٌ من الشعائر، ولا يُستقبل فيها متدين، ولا تُتلى في ردهاتها آيةٌ من كتاب الله عز وجل ، وقد أحالت الثورة هذا كله إلى ماضٍ غير مأسوف عليه.
إنا نحب لرئيس البلاد في ظل العهد الجديد للربيع العربي أن يُعمق التلاحم بين الدين والدولة، وأن يؤكد على التمازج بين الدين والحياة، وإن كنا نحب له في خطابه المسجدي أن يتنبه إلى جملة من الأمور:
• أن يُقلل ما أمكن من الخطاب الارتجالي مهما تفوَّق في امتلاك ناصية القول، ومهما أُوتي من قدرة على الارتجال؛ لأنه يُحاسب الرئيس بما لا يُحاسب به غيره، وتعد عليه أقواله وأفعاله، وتُضخم هفواته وعثرات منطقه، ولا يغتفر له ما قد يغتفر لغيره، لاسيما في ظل هذه الأجواء المشحونة بالاحتقانات ضد الدين والمتدينين، وفي ظل تنمُّر غلاة العلمانية وبقايا الفلول، وقد تقاسموا ليبيتُنَّه وأهله.
• أن يكون له فريقٌ من المتخصصين في صياغة الخطب والتعليقات السياسية والدينية، وألا يعتبر أن هذا الأمر مجرد موهبة شخصية بحتة، بل هو علم من العلوم له أصوله ومتخصصوه، وقد كان للخطب التي صاغها محمد حسنين هيكل لعبد الناصر أعمق الأثر في فتح مغاليق القلوب، بل وفي تزييف وعي الأمة وافتتانها به حينًا من الدهر؛ حتى قال بدوي الجبل:
أشبعت بالخطب الجياع فكل هادرة خوان *** خطب الرئيس هي الكرامة والعلا، وهي الضمان
هي للجياع الطيبات وللعراة الطيلسان *** هي للعفاة النازحين لبانة وهوى وحان
خطب مصبغة وتعرف من مباذلها القيان *** من كل عاهرة وتحلف أنها الخود الحصان
الحن وكرر ما تشاء فإنها الخطب الحسان *** وإذا رطنت فإنها عرباء خالصة هجان
كافور قد عنت الوجوه فكيف لا يعنو البيان؟
• ونحن لا نريد أن نستخدم البلاغة في تغييب الوعي أو تزييفه معاذ الله، بل في فتح مغاليق القلوب للحق، وتألف النفوس على طاعة الله عز وجل ، وفي دكِّ معاقل الباطل ودحض شبهات خصومه وأباطيلها، كما كانت بلاغة القرآن وجهًا من وجوه إعجازه، وآية على عصمته وكونه منزلًا من عند الله، وسبيلًا إلى فتح مغاليق القلوب لبيناته ومواعظه.
• أن يكون لخطابات الرئيس المسجدية وتعليقاته على الخطب المنبرية أجندتها الخاصة، فهي تنطلق من الشأن العام للأمة وَفْق الأولويات التي يراها باعتبار شمول نظرته، ووقوفه من خلال موقعه على ما لا يقف عليه بعض الخطباء، وبالتالي فلا يلزم بالضرورة أن تكون كلمته تعليقًا على موضوع الخطبة، بل لها آفاقها التي تدور في فلكها وتحوم في فضاءاتها، وإن كان لابد من التعليق على موضوع الخطبة، فليكن ذلك بالتنسيق المسبق بين الأوقاف وبين الرئاسة في المساجد التي يتجه الرئيس إلى أداء الجمعة بها، فيُعلم مسبقًا موضوع الخطبة ويُعد التعليق المناسب على أساسه.
• التركيز والإيجاز، فلا يجمل أن يطول التعليق بحيث ينصرف الناس عن متابعة الكلمة لما أملهم من طولها، بل ينبغي ألا تزيد عن بضع دقائق، وسوف يُسهم الإعداد الـمُسبَق في حُسن الاستفادة من هذه الدقائق المحدودة، لتكون جامعةً مانعة بإذن الله، وتستوعب كلَّ ما يُريد أن يُبلغه الرئيس من رسائل في هذه الدقائق المعدودة.
• وختامًا فكل التحية والتقدير والإكبار لانفتاح مؤسسة الرئاسة على المساجد، وإزالة الجفوة بين القصر والمسجد، ورفع الالتباس في العلاقة بين الدين والدولة. والله تعالى أعلى وأعلم.