هل يجوز لي أن أعمل في مجال النيابة والقضاء؟ علمًا بأن الدولة تحكم بالقانون الوضعي في القانون الجنائي (قانون الجزاء)، وأنا قد نويت بدخولي في هذا المكان تقليل الشر بقدر ما يعطيني الله من مقدرة، فأنا قد تخرجت من كلية الشريعة، ورأيت أن أغلب المتقدمين لهذه المهنة لا يغلب عليهم طابع التديُّن، بل إن أحدهم قال في أثناء تسليم أوراق التقديم: أنا مستعد أن أعمل سنة كاملة مراسلًا إذا قبلوني. فاستغربت أن هناك من يريد هذه الوظيفة لأجل الوظيفة لا لأجل شيء آخر، ولكن إذا لم أستطع الآن أن أحكم بالشرع فما العمل؟ هل يجوز أم لا؟ وأذكركم أن مقصدي من دخولي هذا المكان هو تقليل الشر والمفسدة، أفيدونا جزاك الله عني وعن المسلمين كل خير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فلقد أرسل الله رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط(1)، وسبيلهم إلى ذلك تحكيم شرائعه؛ لقيامها على العدل المطلق، ونبذ ما خالفها من الأهواء والتراتيب البشرية، ولهذا كان الأصل أنه لا يجوز التحاكم إلى القضاء الوضعي إلا عند انعدام البديل الشرعي القادر على ردِّ الحقوق واستخلاص المظالم، وعندئذ يكون التحاكم إلى هذا القضاء رخصةً، على أن تكون المطالب التي ترفع إليه مشروعة، وأن لا يُستحَلَّ شيء من أحكامه إلا ما وافق الشريعة، فمن حُكِم له بغير حقه فلا يأخذه؛ لأن حكم القاضي لا يُحِلُّ حرامًا ولا يحرِّم حلالًا؛ فإنه كاشف وليس بمنشئ.
والأصل كذلك هو حرمة تقلّد القضاء في ظل ولاية تحكم بغير ما أنزل الله، إلا إذا تعيَّن ذلك سبيلًا لدفع ضرر عظيم يتهدَّد جماعة المسلمين، أو تقليله، شريطة العلم بأحكام الشريعة الإسلامية والقضاء بأحكامها ما أمكن، واختيار أقرب تخصصات القضاء لأحكام الشريعة الإسلامية ما أمكن، مع كراهية القلب لتحكيم القانون الوضعي، ولما كانت القوانين الجزائية في ظل العلمانية هي أبعد القوانين الوضعية عن الشريعة، فلا ينبغي الترخُّص في هذه الدائرة، ويمكن الترخُّص فيما وراء ذلك في المجالات الإدارية أو المدنية لمن كانت له في ذلك نية صالحة، مع ملاحظة القيود السابقة. والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].