هل يجوز للمقاتل المسلم أن يستأسر إذا خاف على نفسه الموت ورأى أنه لا طاقة له بعدوه ولا قبل له بالتغلب عليه؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
الأصل إذا لاقى المسلم عدوَّه أن يصبر ويثبت؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45]. فإن لم يتمكن من المدافعة ورأى أنه مقتول لا محالة، فإنه يخير في هذه الحالة بين الثبات والمقاتلة حتى الموت أو الاستئسار، والاستئسار هو تسليم الجنديِّ نفسه للأسر، عندما يجد الجنديُّ نفسه مضطرًّا لذلك- والثبات خير له، لما يناله به من منازل الشهداء من ناحية، ويسلم به من تحكُّم الكفَّار عليه بالتَّعذيب والاستخدام والفتنة من ناحية أخرى، ولهذا قال أحمد: ما يعجبني أن يستأسر. وقال: فليقاتل أحب إلي، الأسر شديد. ويتأكد ذلك في حق من يقتدى به كالقادة والأئمة، وفي حق المرأة إذا خافت على نفسها من الوقوع في الفاحشة.
وقد وقع الاستئسار من بعض المسلمين على عهد رسول الله ﷺ وعلم به الرسول ﷺ فلم ينكر عليهم. فقد روى البخاريُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه بسنده قال: «بَعَثَ رَسُولُ الله ﷺ عَشَرَةَ رَهْطٍ عينًا، وأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْـهَدَأة- مَوْضِعٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذَكَرُوا لِبَنِي لـَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَـهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُمْ، فَلَمَّا رَآهم عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَـجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ- مَوْضِعٍ غَلِيظٍ مُرْتَفِعٍ- وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَـهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعهْدُ وَالْـمِيثَاقُ أَلَّا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَوَالله لَا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ خَبِّرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْـمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، والله لَا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةً- يُرِيدُ الْقَتْلَى- فَجَرُّوهُ وَعَالَـجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ- أَيْ مَارَسُوهُ وَخَادَعُوهُ لِيَتْبَعَهُمْ- فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ الدَّثِنَةِ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ»(1).
فعلم رسول الله ﷺ بما حدث، وعدمُ إنكاره يدلُّ على أَنَّ الاستئسار في هذه الحالة مرخَّصٌ فيه.
وقد ترجم البخاري لذلك فقال: باب «هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر».
ويقول الشوكاني في «نيل الأوطار»: «وقد استدل المصنف رحمه الله تعالى بهذا الحديث على أنه يجوز لمن لم يقدر على المدافعة ولا أمكنه الهرب أن يستأسر، وهكذا ترجم البخاريُّ على هذا الحديث باب: هل يستأسر الرجل، ومن لم يستأسر؛ أي هل يسلم نفسه للأسر أم لا.
ووجه الاستدلال بذلك أنه لم ينقل أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أنكر ما وقع من الثلاثة المذكورين من الدخول تحت أسرِ الكفار، ولا أنكر ما وقع من السبعة المقتولين من الإصرار على الامتناع من الأسر، ولو كان ما وقع من إحدى الطائفتين غيرَ جائز لأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابَه بعدم جوازه، وأنكره، فدل تركُ الإنكار على أنه يجوز لمن لا طاقة له بعدوه أن يمتنع من الأسر وأن يستأسر»(2).
وقال الحسن: لا بأس أن يستأسر الرَّجل إذا خاف أن يُغلَبَ. وإلى هذا اتَّجه كلٌّ من الحنفيَّة(3) والمالكيَّة(4) والشَّافعيَّة(5) والحنابلة(6).
وقد نصَّ الشَّافعيَّة على شروطٍ يلزم توافرها لجواز الاستئسار هي: أن يخاف أن يترتَّب على عدم الاستسلام قتله في الحال، وألَّا يكون المستسلم إمامًا، أو عنده من الشَّجاعة ما يمكنه من الصُّمود، وأن تأمن المرأة على نفسها الفاحشة.
والأولى بالمسلم كما تقدم- وكما نصَّ عليه الحنابلة- إذا خَشِيَ على نفسه الوقوعَ في الأسر أن يقاتل حتَّى يقتل، ولا يسلم نفسه للأسر؛ لأنَّه يفوز بثواب الدَّرجة الرَّفيعة، ويسلم من تحكُّم الكفَّار عليه بالتَّعذيب والاستخدام والفتنة، وإن استأسر جاز؛ لما رُوي عن أبي هريرة في الحديث المتقدِّم. والله تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الجهاد والسير» باب «هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر ومن ركع ركعتين عند القتل» حديث (3045).
(2) «نيل الأوطار» (7/298-300).
(3) جاء في «حاشية ابن عابدين» (4/127): «مطلبٌ إذا علم أنه يقتل يجوز له أن يقاتل بشرط أن ينكي فيهم وإلا فلا بخلاف الأمر بالمعروف (قوله لم يلزمه القتال) يشير إلى أنه لو قاتل حتى قتل جاز، لكن ذكر في شرح السير أنه لا بأس أن يحمل الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل إذا كان يصنع شيئًا بقتلٍ أو بجرحٍ أو بهزمٍ فقد فعل ذلك جماعةٌ من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ ومدحهم على ذلك فأما إذا علم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم؛ لأنه لا يحصل بحملته شيءٌ من إعزاز الدين».
(4) جاء في «التاج والإكليل» (4/553-555): «ابن رشد: وله أن يستأسر اتفاقًا وحمل الرجل وحده من الجيش الكثيف على جيش العدو للسمعة والشجاعة مكروه اتفاقًا».
(5) جاء في «البجيرمي على المنهج» من كتب الشافعية (4/251): «(وإذا لم يمكن) من قصد (تأهب لقتال وجوز أسرا) وقتلا (فله استسلام) وقتال بقيد زدته بقولي (إن علم أنه إن امتنع) منه (قتل) (وأمنت المرأة فاحشة) إن أخذت وإلا تعين الجهاد».
(6) جاء في «الإنصاف» من كتب الحنابلة (4/124-125): «فائدة : قال المصنف والشارح وغيرهم : لو خشي الأسر فالأولى أن يقاتل حتى يقتل ، ولا يستأسر . وإن استأسر جاز . لقصة خبيب وأصحابه».