في صلاة عصر اليوم وأنا بالخليج نسي الإمام التشهد الأول واعتدل واقفًا، فقام المأمومون بتنبيهه بالتكبير فعاد للتشهد وأكمل الصلاة، وقبل التسليم سجد سجود السهو، فقمت أنا وأعدت الصلاة؛ حيث إني أراها غير صحيحة؛ لأنه ترك الواجب الركعة الثالثة ليأتي بالسنة (التشهد الأول في حال النسيان)، فما حكم هذه الصلاة؟ أرجو الأدلة الكافية الشافية وجزاكم اللهُ خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإنه إذا نسي الإمام التشهد الأول واعتدل واقفًا فينبغي ألا يرجع، ويتم صلاته ثم يسجد للسهو؛ لما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن بحينة الذي جاء فيه: صلى لنا رسول الله ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبَّر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلَّم(1).
وأما إذا عاد إلى الجلوس بعد أن استتم قائمًا فقد أساء وأتى مكروهًا، وصلاته لا تبطل بل صحيحة عند جمهور أهل العلم(2)؛ لما ورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْـخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه»(3). ولقول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286]، وما ثبت في الصحيح من أن الله تعالى قال: «قَدْ فَعَلْتُ»(4).
قال الحافظ ابن عبد البر شارحًا لحديث عبد الله بن بحينة السابق: «وفي هذا الحديث من الفقه أن المصلي إذا قام من اثنتين واعتدل قائمًا لم يكن له أن يرجع، وإنما قلنا: واعتدل قائمًا؛ لأن الناهض لا يسمى قائمًا حتى يعتدل على الحقيقة، وإنما القائم المعتدل. وفي حديثنا هذا: ثم قام، وإنما قلنا: لا ينبغي له إذا اعتدل قائمًا أن يرجع؛ لأنه معلوم أن من اعتدل قائمًا في هذه المسألة لا يخلو من أن يذكر بنفسه أو يُذكِّره مَن خلفه بالتسبيح، ولاسيما قوم قيل لهم: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ»(5)، وهم أهل النهي وأولى من عمل بما حفظ ووعى. وأي الحالين كانت فلم ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بعد قيامه، فكذلك ينبغي لكل من قام من اثنتين ألا يرجع، فإن رجع إلى الجلوس بعد قيامه لم تفسد صلاته عند جمهور العلماء(6)، وإن اختلفوا في سجود سهوه وحال رجوعه، وقد قال بعض المتأخرين: تفسد صلاته، وهو قول ضعيف لا وجه له؛ لأن الأصل ما فعله، وترك الرجوع رخصة وتنبيه على أن الجلسة لم تكن فرضًا. والله أعلم»(7).
وقال ابن قدامة المقدسي: «فأما القيام في موضع الجلوس ففي ثلاث صور: إحداها: أن يترك التشهد الأول ويقوم، وفيه ثلاث مسائل:
الأولى: ذِكْره قبل اعتداله قائمًا، فيلزمه الرجوع إلى التشهد، وممن قال «يجلس» علقمة، والضحاك، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي، وابن المنذر، وقال مالك: إن فارقت أَلْيتاه الأرض مضى. وقال حسان بن عطية: إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى(8).
ولنا: ما روى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَإِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، فَإِذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ»(9)؛ ولأنه أخلَّ بواجبٍ ذَكَره قبل الشروع في ركن مقصود، فلزمه الإتيان به، كما لو لم تفارق أليتاه الأرض.
المسألة الثانية: ذِكْره بعد اعتداله قائمًا وقبل شروعه في القراءة، فالأولى له ألا يجلس، وإن جلس جاز. نص عليه- أي الإمام أحمد- قال النخعي: يرجع ما لم يستفتح القراءة. وقال حماد بن أبي سليمان: إن ذكر ساعةَ يقوم جلس.
ولنا: حديث المغيرة وما نذكره فيما بعد؛ ولأنه ذكره بعد الشروع في ركن، فلم يلزمه الرجوع، كما لو ذكره بعد الشروع في القراءة، ويحتمل أنه لا يجوز له الرجوع؛ لحديث المغيرة؛ ولأنه شَرَع في ركن فلم يجز له الرجوع، كما لو شرع في القراءة.
المسألة الثالثة: ذِكْره بعد الشروع في القراءة، فلا يجوز له الرجوع، ويمضي في صلاته في قول أكثر أهل العلم، وممن رُوي عنه أنه لا يرجع: عمر، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير، وابن الزبير، والضحاك بن قيس، وعقبة بن عامر، وهو قول أكثر الفقهاء»(10).
وقد سئل الشيخ ابن باز : في ذلك فقال: «المشروع له بعد الاعتدال أن يمضي، وأن يتابعوه، ويسجد السهو، ولكنه إن رجع لا يضر إن شاء الله».
فصلاة الإمام صحيحة وإن كان الأولى به وقد اعتدل قائمًا ألا يرجع. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة» حديث (1224)، ومسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «السهو في الصلاة والسجود له» حديث (570).
(2) جاء في «تحفة المحتاج» من كتب الشافعية (2/178-179): «(أَو) عَادَ لَهُ -أي الإمام- (نَاسِيًا) أَنَّهُ فِي صَلاةٍ أَو حُرمَةَ عَودِهِ…………(فَلا) تَبطُلُ لِرَفعِ القَلَمِ عَنهُ نَعَم يَلزَمُهُ القِيَامُ فَورًا عِندَ التَّذَكُّرِ (وَيَسجُدُ لِلسَّهوِ) لإِبطَالِ تَعَمُّدِ ذَلِكَ (أَو) عَادَ لَهُ (جَاهِلا) تَحرِيمَهُ وَإِن كَانَ مُخَالِطًا لَنَا؛ لأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخفَى عَلَى العَوَامّ (فَكَذَا) لا تَبطُلُ صَلاتُهُ فِي الأَصَحِّ لِمَا ذُكِرَ وَيَلزَمُهُ القِيَامُ فَورًا عِندَ تَعَلُّمِهِ وَيَسجُدُ لِلسَّهوِ».
(3) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (2/ 216) حديث (2801)، وابن حبان في «صحيحه» (16/ 202) حديث (7219)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 356) حديث (14871)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه . وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه». وقال البيهقي: «جود إسناده بِشر بن بكر وهو من الثقات».
(4) سبق تخريجه (126).
(5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «الإشارة في الصلاة» حديث (1234)، ومسلم في كتاب «الصلاة» باب «تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم» حديث (421)، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه .
(6) جاء في «الاستذكار» لابن عبد البر، من كتب المالكية (1/521): «فإن رجع إلى الجلوس بعد قيامه لم تفسد صلاته عند جمهور العلماء لأنه رجع إلى أصل ما كان عليه وسهوه في قيامه متجاوز عنه».
(7) «التمهيد» لابن عبد البر (10/184).
(8) جاء في «المغني» من كتب الحنابلة (2/19-21): «الـمَسأَلَةُ الأُولَى، ذِكرُهُ قَبلَ اعتِدَالِهِ قَائِمًا، فَيَلزَمُهُ الرُّجُوعُ إلَى التَّشَهُّدِ. وَمِمَّن قَالَ يَجلِسُ عَلقَمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالأَوزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابنُ المُنذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إن فَارَقَت أَليَتَاهُ الأَرضَ مَضَى. وَقَالَ حَسَّانُ بنُ عَطِيَّةَ: إذَا تَجَافَت رُكبَتَاهُ عَن الأَرضِ مَضَى».
(9) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/253) حديث (18248)، وأبو داود في كتاب «الصلاة» باب «من نسي أن يتشهد وهو جالس» حديث (1036)، وابن ماجه في كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب «من جاء فيمن قام من اثنتين ساهيًا» حديث (1208)، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (1036).
(10) «المغني» (1/379).