أرجو البيانَ الواضح جدًّا في الهديَّة التي لا يترتَّب عليها أيُّ شيءٍ مخالف للشَّرْع والعمل، إذا أُهديت إليَّ في العمل؟ وإذا كان يوجد حديثٌ في ذلك أرجو ذِكْره لاقتنائه؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الهديَّة قد تلتبس بالرِّشْوة؛ فوجب التَّفْريق بينهما في بداية الإجابة عن سؤالك، فإن الرِّشْوة هي: بذل المال من مُبطِلٍ ليحصل على حقِّ غيره، أو من مُحِقٍّ ليحصل على حقِّه، وتوجيه الجزء الأوَّل من التَّعْريف واضح؛ لأن أَكْل حقوق الآخرين بالباطل مُتَّفق على تحريمه مقاصدَ وذرائعَ، أما توجيه الجزء الثَّاني من التَّعْريف فلأن أصحاب الولايات العامَّة لا يجوز لهم الامتناعُ عن بذل الحقوق إلا بمقابلٍ، فإن هذا من الجَوْر والبغي وإضاعة الأمانة! لقد أُقيموا في مواقعهم لقضاء مصالح النَّاس وبذل الحقوق لهم بلا مقابلٍ، فإن امتنعوا عن بذلها إلا بجُعل يُجعل لهم فهذا من الرِّشْوة المُحرَّمة التي توعَّد نبيُّنا ﷺ أصحابَها وجعلهم بسببها أهلًا لِلَّعْن والطَّرْد من رحمة الله عز و جل (1)، والرِّشْوة من الكبائر فقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188] وقال تعالى في ذمِّه لليهود: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة: 42] قال الحسن، وسعيد بن جُبَير: هو الرِّشْوة.
وقد روى الإمام أحمد وحسَّنه التِّرْمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَعَن رسولُ الله الراشيَ والمرتشيَ في الحكم(2).
وأخرج الطَّبَراني بسندٍ جيدٍ عن عبد الله بن عمرو عن النبيِّ ﷺ: «الرَّاشِي وَالْـمُرْتَشِي فِي النَّارِ»(3).
وروى الإمام أحمد عن ثوبان قال: لعن رسولُ الله الراشيَ والمرتشي والرائش(4).
فكلُّ هذه الأدِلَّة تُؤكِّد على حُرْمة الرِّشْوة وعلى أن اللعنة تُصيب أطرافها جميعًا، ولكن لا يدخل في ذلك من اضطُرَّ لبذل مالٍ توصلًا إلى أخذ حقٍّ أو دفع ظلمٍ؛ إذا لم يتسنَّ له استخلاص الحقِّ أو دفع الظلم إلا بذلك، ويكون الإثم والتَّبِعة في هذه الحالة على من أخذ الرِّشْوة لا على من بذلها، قال ابن الأثير: «فأما ما يُعطى توصُّلًا إلى أخذ حقٍّ أو دفع ظلم فغير داخل فيه؛ رُوي أن ابنَ مسعود أُخذ بأرض الحبشة في شيءٍ فأعطى دينارين حتى خُلِّي سبيلُه(5)، ورُوي عن جماعة من أئمة التَّابعين أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرَّجُل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم(6)»(7). انتهى.
وأما الهديَّة فيُقصد بها: إكرام الشَّخْص، إما لمحبَّةٍ، أو لصداقة، أو لعلمٍ أو صلاحٍ، أو لطلب حاجةٍ مباحة ليست واجبةَ البذل على الـمُهدَى إليه، فالمُهدِي قَصْدُه استجلاب الـمودَّة والمعرفة والإحسان، وليس مقصودُه التَّوصُّلَ بعطيَّته إلى إبطال حقٍّ أو إسقاط واجبٍ، وهي مُستحبَّة إذا كانت على الصِّفة الشَّرْعيَّة، وتُكره بالنِّسْبة لأصحاب الولايات العامَّة الذين تُناط بهم أمور النَّاس؛ لأنها تفتح الذَّريعة إلى الرِّشْوة المُحرَّمة، أما إذا أمن ذلك وكان بينهما عادة على التهادي من قبل فلا حرج. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) أخرجه مسلم.
(2) أخرجه مسلم.
(3) أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/57) حديث (58)، وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/53) وقال: «رواه الطبراني في معجم شيوخه من رواية ابن عمرو وإسناده حسن».
(4) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/279) حديث (22452)، والحاكم في «مستدركه» (4/115) حديث (7068) من حديث ثوبان رضي الله عنه ، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/126) وقال: «رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني وفيه أبو الخطاب لا يعرف»، وضعفه الألباني في «ضعيف الترغيب والترهيب» (1344).
وأخرجه أحمد بن منيع كما ذكر العجلوني في «كشف الخفاء» (2/186) قائلًا: «رواه أحمد بن منيع عن ابن عمر وسنده حسن».
(5) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (10/139) حديث (20269).
(6) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/447) حديث (21993) من قول جابر بن زيد والشعبي رحمهما الله.
(7) «النهاية في غريب الأثر» لابن الأثير (2/226).