هل هناك فرق بين أفعال المكلَّف وما يصدر منه في حالة المزاح، وما يصدر منه في حالة الجِد؟ أي بمعنى: أن المزاح ليس له اعتبار في نظر الشرع، وإذا كان هناك فرق فأرجو بيانه؛ للأهمية. وهل المعاصي إذا فعلت على وجه المزاح تكون أخفَّ ذنبًا عند الله من إيقاعها على وجه الجِد؟ كمن يسب ويغتاب ويقذف مازحًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الهزل لا يُسقط المسئولية عن القول أو الفعل؛ فإن الهازل قد قصد إلى القول أو الفعل، ولكنه لم يقصد إلى ترتيب النتيجة عليه، وهذا ليس إليه، بل هو إلى الله جل وعلا.
ويبين ذلك ابن القيم فيقول في معرض تفريقه بين الهازل من جهة، والناسي أو المخطئ أو النائم أو المكره من جهة أخرى: «والفرقُ بينهما: أن الهازل قاصدٌ للفظ غير مريد لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنما إلى المكلَّف الأسباب، وأما ترتُّب مسبَّبَاتها وأحكامها: فهو إلى الشارع، قَصَدَه المكلَّف أو لم يقصده، والعبرة بقصده السبب اختيارًا في حال عقله وتكليفه، فإذا قصده رتَّب الشارع عليه حكمه، جَدَّ به أو هزل، وهذا بخلاف النائم والمبرسم (وهو الذي يهذي لعلة في عقله) والمجنون وزائل العقل؛ فإنهم ليس لهم قصد صحيح، وليسوا مكلَّفين؛ فألفاظهم لغو، بمنزلة الطفل الذي لا يعقل معناها، ولا يقصده.
وسر المسألة: الفرق بين من قصد اللفظ وهو عالم به ولم يُرد حكمه، وبين من لم يقصد اللفظ ولم يعلم معناه، فالمراتب التي اعتبرها الشارع أربعة:
إحداها: أن يقصد الحكم ولا يتلفظ به.
الثانية: ألا يقصد اللفظ ولا حكمه.
الثالثة: أن يقصد اللفظ دون حكمه.
الرابعة: أن يقصد اللفظ والحكم.
فالأوليان: لغو، والأخريان: معتبرتان، هذا الذي استفيد من مجموع نصوصه وأحكامه». انتهى(1).
فينبغي على العاقل أن يحفظ لسانه، وأن يعلم أنه ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] فكل ما يتلفظ به فهو مكتوب عليه ومسئول عنه، وأن يذكر قوله صلى الله عليه وسلم : «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»(2)، و «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ الله بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله لَا يُلْقِي لَـهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»(3). وأن الله تعالى قد قال للذين خاضوا في القرَّاء في زمن النبوة واعتذروا بأنهم كانوا يخوضون ويلعبون: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 66] والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________
(1) «زاد المعاد» ( 5 / 204- 205 ).
(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/231) حديث (22069)، والترمذي في كتاب «الذبائح» باب «ما جاء في حرمة الصلاة» حديث (2616)، وابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «كف اللسان في الفتنة» حديث (3973). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «حسن صحيح».
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الرقاق» باب «حفظ اللسان» حديث (6478)، ومسلم في كتاب «الزهد والرقائق» باب «التكلم بالكلمة يهوي بها في النار» حديث (2988)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . واللفظ للبخاري، ولفظ مسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ».