ما هو رأي فضيلتكم فيما صرح به شيخ الأزهر بمناسبة إسلام فتاتَيِ المنيا: كريستين 17 سنة، ونانسي 14 سنة، من أن من أسلم دون البلوغ لا يصحُّ له إسلام، ولا يجوز له أن يُشهر إسلامه، مستدلًّا بما جاء في مذهب الإمام الشافعي، وأنه لا يزال في ولاية عَصَبَتِه وذويه، وأنه قرَّر إرسال شيوخ من الأزهر للتأكد من قناعة فتاتي المنيا الدينية واطلاعهن على أنه لا يجوز إشهار الإسلام قبل سن البلوغ، وأنهن في حكم القاصرات، وأن الولاية تكون لذويهن؟ أفتونا مأجورين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فأوجز تعقيبي على ذلك في عدة أمور:
أولًا: لابد من التحقق من صحة الخبر ابتداءً، فما آفة الأخبار إلا رواتها! وأخشى أن يكون هذا الخبر قد طير في هذه الآونة الحرجة، وحرِّف بالزيادة أو النقص للتهييج على مشيخة الأزهر، والغض من مكانتها العلمية، والطعن في رمزيتها التاريخية!
ثانيًا: لابد أن فضيلة الإمام الأكبر يدرك أن الخلاف الوارد في هذه المسألة بين الشافعية والجمهور(1) إنما هو خلاف في الـمُميِّز الذي لم يبلغ سن البلوغ، فهذا الذي صحح الجمهور إسلامه؛ لأن الإسلام عبادة محضة فصحَّت من الصبي العاقل، كالصلاة والحج؛ ولأن عليًّا رضي الله عنه أسلم صبيًّا، وصحة إسلامه موضع إجماع من الأمة كافة!
ونازع في ذلك الشافعية(2)، فقالوا: إن إسلام الصبي المميز وكذا رِدَّته لا تصح حتى يبلغ؛ لأن البلوغ مناط التكليف، ومناط الاعتداد بالتصرفات الشرعية.
أما إذا بلغ سن البلوغ فقد اتفقت الأمة كافة على صحة إسلامه، ولا علاقة لذلك ببلوغه سن الرشد القانونية، كما أنه لا علاقة له كذلك بإشهار إسلامه أو عدم إشهاره؛ فإن البلوغ مناط التكليف وليس بلوغ سن الرشد القانونية، فإن الصبي قد رفع عنه القلم حتى يبلغ، وليس حتى يبلغ سن الرشد كما حدَّدتها القوانين الوضعية المعاصرة، وليس الإشهار أمام الجهات القضائية أو الإدارية؛ لأن هذا الإشهار مجرد توثيق لإنهاء بعض التراتيب الإدارية، ولا علاقة له بصحة إسلامه في باب الديانة.
وإذا كان ذلك كذلك فلا ينطبق فقه الشافعية على الفتاتين المذكورتين في هذه النازلة لبلوغهما سن البلوغ وإن لم تبلغا سن الرشد القانونية!
ولا أدري ما هو المقصود بما نسب إلى فضيلة الإمام الأكبر من القول بأنه لا يجوز إشهار الإسلام قبل سن البلوغ، وأنهن في حكم القاصرات، وأن الولاية تكون لذويهن، فإن في هذه العبارة خلطًا بين البلوغ الشرعي والرشد القانوني.
إن البلوغ الشرعي بالنسبة للإناث يتم بحصول علامة من أربع: أن تُتِمَّ خمس عشرة سنة، أو أن تنبت عانتها وهو الشعر الخشن حول الفرج، أو بإنزال المنيِّ، أو بالحيض.
أما سن الرشد القانونية فهي ببلوغها ثماني عشرة سنة، وهاتان الفتاتان منهما من بلغت بيقين، والثانية يرجح بلوغها.
ومن ناحية أخرى ماذا يُقصد بعدم جواز إشهار إسلام القاصر؟ هل يقصد به الجواز القانوني أم الجواز الشرعي.
أما الجواز الشرعي فأُنزِّه فضيلته عن توجُّه قصده إليه، فإن هذا لا أعرفه قد سطر في ديوان من دواوين الإسلام، ولا كتب في كتاب من كتب المسلمين من قبل.
وأما الجواز القانوني فهو أمر يُرجع فيه إلى القانونيين، وقد تقتضيه بعض التراتيب الإدارية وينبغي قبل إقراره أن يرجع فيه إلى المرجعيات الشرعية!
ثالثًا: أنه مع اعتبار الخلاف في صحة إسلام المميِّز الذي لم يبلغ سن البلوغ، فقد اتفق أهل العلم على أنه لا يرد إلى أهله من غير المسلمين حمايةً له من الفتنة في الدين، ونخص بالذكر أئمة الشافعية فإنهم هم الذين نازعوا في إسلام المميز دون البلوغ، ولكنهم لم يختلفوا في أنه لا يُرَدُّ من أسلم منهم إلى ذويه من غير المسلمين.
قال الشيرازي : في «المهذب»: «فإن جاءت صبية ووصفت الإسلام لم تُرَدَّ إليهم، وإن لم يحكم بإسلامها؛ لأنا نرجو إسلامها، فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الإسلام، فإن بلغت ووصفت الكفر قرعت، فإن أقامت على الكفر ردت إلى زوجها»(3).
وقال الشيخ زكريا الأنصاري في «أسنى المطالب في شرحه على روض الطالب» ما نصُّه: «ولو جاءت صبيَّةٌ مميزةٌ تصف الإسلام لم نردَّها؛ لأنا وإن لم نصحِّح إسلامها نتوقَّعه فيحتاط لحرمة الكلمة»(4).
وقال السيوطي في «الأشباه والنظائر» وهو شافعي المذهب: «إذا جاءتنا من المهادنين صبية تصف الإسلام، فإنا لا نردها إلى الكفار، وإن قلنا: لا يصح إسلام الصبي؛ لأن الأصل بقاؤها على ما تلفظت به إذا بلغت»(5).
ومن قبلهما قال الشافعي : في كتابه «الأم»: «وإن خرجت إلينا منهم زوجةُ رجلٍ لم تبلغ وإن عقلت فوصفت الإسلام منعناها منه بصفة الإسلام، ولا يُعطى حتى تبلغ، فإذا بلغت وثبتت على الإسلام أعطيناه العوض إذا طلبها بعد بلوغها وثبوتها على الإسلام… ولو جاءتنا جاريةٌ لم تبلغ فوصفت الإسلام وجاء زوجها وطلبها فمنعناه منها فبلغت ولم تصف الإسلام بعد البلوغ فتكون من الذين أُمِرنا إذا علمنا إيمانَهن ألا ندفعهن إلى أزواجهن، فمتى وصفت الإسلام بعد وصفها الإسلام والبلوغ لم يكن له عوضٌ»(6).
وإذا كان ذلك كذلك فلا يصح ردُّ من أسلم دون البلوغ إلى أهله، حتى لا يفتن في دينه، وإنما يمكن القول بمشروعية التثبت من عدم إكراهه في الدين من خلال جهة محايدة.
رابعًا: أن من يراجع سجلات دار الإفتاء المصرية سيجد هذا المعنى مقررًا على لسان أئمة الفتوى في وقائع كثيرة، كالشيخ عبد المجيد سليم وبكري الصدفي وغيرهم رحمهم الله جميعًا.
نقتصر بسوق هذه الفتوى لشيخ الأزهر الأسبق الشيخ عبد المجيد سليم، فقد سئل رحمه الله تعالى عن إسرائيلية وُلدت بمصر وجنسيتها إيطالية وتبلغ من العمر سبعة عشر عامًا هجريًّا اعتنقت الدين الإسلامي وهي في هذه السن وعملت إشهارًا رسميًّا بذلك لها، فهل إسلامها صحيح وهي في هذه السن أم لا؟ وهل يُشترط في دخول الكتابية الإسلام سن معينة أم لا؟
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد: أنه إنما اشترط في صحة الإسلام التمييز، ولا يشترط في صحته سن معينة بعد أن يكون قد أسلم مميزًا، وقد اختلف في الصبي المميز: فقيل: هو ما كان ابن سبع سنين فأكثر، وقيل: هو الذي يعقل أن الإسلام سبب النجاة، ويميز الخبيث من الطيب، والحلو من المر. وعلى هذا فإسلام الإسرائيلية المذكورة صحيح. وبهذا علم الجواب عن السؤال، حيث كان الحال كما ذكر به، والله أعلم.
خامسًا: أنه مع اعتبارنا لخطورة الاحتقان الطائفي الذي يعزف على أوتاره الشانئون والحانقون في هذه المرحلة الدقيقة، والذين يسعون لاغتيال التماسك الوطني من خلاله، ومع تقديرنا لسعي الكبار والمصلحين لاحتواء هذه النزاعات وإطفاء هذه الحرائق، فإن ثمة سبلًا كثيرة يمكن طرقها للوصول إلى هذا المقصود الصحيح، ولا تتضمن انتهاكًا للثوابت الدينية، ولن يعجز العقلاء والحكماء عن اقتراح تراتيب معينة تحفظ للمسلمين الجدد حقَّهم في البقاء على إسلامهم وشهره أمام الجهات الرسمية، وتَحُول دون أن يتخذ ذلك مطية لإشعال فتيل الفتنة الطائفية، وتخريب الوحدة الوطنية!
ويبقى أن لمشيخة الأزهر مهابتها وتوقيرها، ولعل هذه المقولة عند تحريرها لا تدور في هذا الفلك الذي صوَّرها به الإعلاميون الذين تعودنا من كثير منهم المجازفة وعدم تحرير المقال.
نسأل الله جل وعلا أن يردنا إليه ردًّا جميلًا، وأن يحفظ لمصر تماسك نسيجها وتلاحم أبنائها، وأن يرزقنا البصيرة والرشد، وأن يجنبنا الزيغ والزلل في القول والعمل. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال ابن عابدين في «حاشيته» (8/69): «(وإذا ارتدَّ صبِيٌّ عاقل صحَّ) خِلافًا للثانِي، ولا خِلاف في تخلِيده في النارِ لعدمِ العفو عن الكُفرِ. تلوِيح (كإسلامِه) فإنهُ يصِحُّ اتِّفاقًا».
وجاء في «شرح مختصر خليل» للخرشي المالكي(8/69): «(ص) وحُكم بإسلام من لم يُميِّز لصغرٍ، أو جُنُونٍ بإسلام أبيه فقط كأن ميز. (ش) يعني: أنهُ يُحكمُ بإسلام الولد الذي لم يُميِّز بسبب إسلام أبيه فقط، وعدمُ تمييز الولد إما لأجل صغره، أو لأجل جُنُونه، ولو بالغًا، وغيرُ الأب لا يحكُمُ بإسلام الولد بسبب إسلامه على المشهُور، وكذلك يُحكمُ بإسلام الولد المميز الذي لم يُراهق بسبب إسلام أبيه فقط، وكذا بإسلامه استقلالًا على ظاهر المذهب».
وقال الرحيباني الحنبلي في «مطالب أولي النهى» (6/290): «(ويَصِحُّ إسلامُ مُمَيِّزٍ) ذَكَرٍ أو أُنثَى (عَقَلَهُ) أي: الإسلامَ».
(2) قال الخطيب الشربيني في «مغني المحتاج» (3/608): «(ولا يَصحُّ إسلامُ صبيٍّ مميِّزٍ استقلالًا على الصحيحِ) المنصوصِ في القديم والجديد كما قاله الإمام؛ لأنه غير مكلفٍ فأشبه غير المميز والمجنون، وهما لا يصح إسلامُهما اتفاقًا كما سيأتي». وقال في موضع آخر عن الردة (5/432): «ويُعتبَر فيمَن يَصير مرتدًّا بشيءٍ مما مَر أن يكون مكلفًا مختارًا (و) حينئذٍ (لا تَصِح رِدّةُ صبيٍّ) ولو مميِّزًا».
(3) «المهذب» (2/262).
(4) «أسنى المطالب» (4/227).
(5) «الأشباه والنظائر» ص536.
(6) «الأم» (4/196).