شيخنا الكريم، ادعُ الله أن يحشرنا وإيَّاكم مع نبينا محمد . وبعد:
نرجو من سيادتكم إفادتنا عن صحة سحر النبيِّ ؛ لأن الحديث المذكور في البخاري يروي أن النبيَّ فد التبس عليه الأمر.
كيف يُسحر النبي وقد ذكر الله ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]؟
وأيضًا السحر يُصدِّق قول الكفار عن النبي أنه كان مسحورًا أو مجنونًا أو ساحرًا أو بما يصادق فعل السحر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الحديث الذي يُذكر فيه سحر النبي صلى الله عليه وسلم مُخرَّج في الصحيحين، فعن عائشة ل قالت: سُحر النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى كان يُخيَّل إليه أنه يَفعلُ الشيءَ وما يفعله، حتى كان ذات يومٍ دعا، ودعا، ثم قال: «أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي؟ أَتَانِي رَجُلانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ؟ قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي مَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ(1). قَالَ فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ». فخرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: «نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ»». فقلت: أستخرجتَه؟ فقال: «لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِيَ اللهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئْرُ»(2).
ولا يحطُّ هذا الأمر من منصب النبوة؛ فإن هذا السحر لا علاقة له بأمر التبليغ؛ لقيام الإجماع على عصمته في ذلك، وإنما هو في الأمور الدنيوية البحتة مما لا لصلة له بالرسالة والبلاغ، فالسحر إنما تسلَّط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده.
وقد وقع لموسى عليه السلام شيء من ذلك فيما قصه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: 66].
فكما أن ما أصاب موسى عليه السلام من ذلك لم يكن منافيًا للعصمة، فكذلك ما أصاب سيد المرسلين صلوات الله سلامه عليه، ولله جل وعلا أن يَبتليَ أنبياءه بشتى أنواع البلاء ليعلم الناسُ أنهم بشرٌ مثلَهم؛ فلا يرفعوهم إلى درجة الألوهية؛ وليزداد ثواب الأنبياء وتعظُم منازلهم ودرجاتهم عند الله تعالى بما يلاقونه ويتحملونه في سبيل تبليغ رسالات الله.
يقول ابن القيم :: «هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السحر الذي سحَرَتْهُ اليهود به:
قد أنكر هذا طائفةٌ من الناس، وقالوا: لا يجوز هذا عليه. وظنُّوه نقصًا وعيبًا، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يعتريه من الأسقام والأوجاع، وهو مرضٌ من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسُّمِّ لا فرق بينهما، وقد ثبت في البخاري عن عائشة ل أنها قالت: سُحِر رسول الله، حتى إن كان ليُخيَّل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن، وذلك أشد ما يكون من السحر(3). قال القاضي عياض: والسِّحر مرض من الأمراض، وعارضٌ من العلل، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا يُنكر، ولا يَقدح في نبوته.
وأما كونه يُخيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله: فليس في هذا ما يُدخل عليه داخلةً في شيء من صِدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز أن يطرأ عليه في أمرِ دنياه التي لم يُبعث لسببها، ولا فُضِّل من أجلها، وهو فيها عُرضة للآفات كسائر البشر، فغيرُ بعيدٍ أنه يُخيَّل إليه مِن أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان»(4). والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــ
(1)المشاقة: ما سقط من الشعر عند المشط. والجف: الغشاء. والطلع: غلاف يُشبه الكوز ينفتح عن حبٍّ منضود فيه مادة إخصاب النخلة. «المعجم الوسيط» (طلع).
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «بدء الخلق» باب «صفة إبليس وجنوده» حديث (3268)، ومسلم في كتاب «السلام» باب «السحر» حديث (2189).
(3) أخرجه البخاري في كتاب «الطب» باب «هل يستخرج السحر» حديث (5765).
(4) «الطب النبوي» (98- 99).