تزوَّج رجلٌ بثانيةٍ ولم يبنِ بها لاشتراطها في العقد ألا يتمَّ البناءُ إلا بعد أن يتمَّ الزَّواج بطريقة رسمية فيها عدلٌ بين البيتين وفيها المبيت أيضًا.
ووافق على ذلك بالطبع، ومع أول أسبوع من العقد علمت زوجته الأولى، فهدَّدَتْه برفع قضيةٍ وأنه يجب أن يُطلِّق الزوجة الثَّانية.
وبالفعل جلس شهورًا يقول للزوجة الثَّانية أنه سوف يُطلِّقها، حتى تمَّ الطلاق، ولكن تمَّ الطَّلاقُ في بيته حيث انتقلت الزوجة الثَّانية لبيتٍ له، لضيق حالتها المادية.
انتقلت لشقة زوجها الذي عقد عليها ولم يبنِ بها حتى الآن، وهو يصرف عليها ولكن لم يبنِ بها ولم يفعل حتى مُقدِّمات الجماع ثم طلَّقها، وقد عَلِمَتْ هي أن لها العدة والمهر كاملًا لحدوث الخلوة بينهما.
والسُّؤال هنا مهم جدًّا معرفته: هل الطَّلاق هنا بائنٌ أم رجعيٌّ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الذي عليه جماهيرُ أهل العلم أن الخلوةَ الصَّحيحة تقوم مقام البناء في استحقاق المهر كاملًا وفي وجوب العِدَّة وفي كون الطَّلاق رجعيًّا، وخالف في ذلك الشافعيةُ(1) فلم يوجبوا شيئًا من ذلك إلا بالبناء، فقد جاء في «المغني» لابن قُدَامة: «إن استمتع بامرأته بمباشرةٍ فيما دون الفرج من غير خَلْوةٍ كالقُبْلة ونحوها فالمنصوص عن أحمد أنه يَكْمُل به الصداق؛ فإنَّه قال: إذا أخذها فمسَّها وقبض عليها من غير أن يَخْلُوَ بها لها الصداقُ كاملًا إذا نال منها شيئًا لا يحل لغيره. وقال في روايةٍ: إذا تزوَّج امرأةً ونظر إليها وهي عُريانة تغتسل أوجب عليه المهر. ورواه عن إبراهيم: إذا اطَّلع منها على ما يَحرُم على غيره فعليه المهر؛ لأنه نوعُ استمتاعٍ, فهو كالقبلة». اهـ(2).
وجاء فيه أيضًا: «وجملة ذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا خلا بامرأته بعد العقد الصَّحيح، استقرَّ عليه مهرُها ووجبت عليها العدة وإن لم يطأ، رُوي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيدٍ وابن عمر، وبه قال عليُّ بن الحسين وعروة وعطاءٌ والزُّهريُّ والأوزاعي وإسحاقُ وأصحاب الرأي، وهو قديمُ قولَيِ الشافعيِّ». انتهى(3).
فالذي يظهر أنها وقد انتقلت إلى الإقامة في بيته، وخلا بها مراتٍ ومرات؛ فإن هذه الخلوةَ تقوم مقام البناء في كلِّ ما ذُكر، فيكون الطَّلاقُ رجعيًّا.
ولكن إذا ثبت أنه قد أضرَّ بها فإنها تملك حقَّ التطليق للضرر ويتولَّى ذلك القضاءُ؛ فإن عجزت عن إثبات الضرر فأمامها الخلع الذي تفتدي بها نفسها من استمرار العشرة معه ما دامت لا تُطيقه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
___________________________
(1) جاء في «تحفة المحتاج» من كتب الشافعية (7/383-384): « (ويستقر المهر بوطء) وإنما يحصل بتغييب الحشفة أو قدرها من فاقدها وإن لم تزل البكارة كما اقتضاه إطلاقهم وفارق ما مر في التحليل من عدم الفرق بين العوراء وغيرها بأن القصد به التنفير عن إيقاع الثلاث فإذا انضم إليه هذا كان أشد في التنفير (وإن حرم كوطء) دبر أو نحو (حائض) كما دلت النصوص القرآنية لا باستمتاع وإدخال ماء وإزالة بكارة بغير ذكر والمراد باستقراره الأمن من سقوط كله أو بعضه بنحو طلاق أو فسخ (وبموت أحدهما) في نكاح صحيح لا فاسد قبل وطء لإجماع الصحابة ولبقاء آثار النكاح بعده من التوارث وغيره وقد لا يستقر بالموت كما مر فيما لو قتلت أمة نفسها أو قتلها سيدها وقد يسقط بعد استقراره كما لو اشترت حرة زوجها بعد وطء وقبل قبضها للصداق لأن السيد لا يثبت له على قنه مال كذا زعمه شارح وهو وجه والأصح أنه لا يسقط فإن قبضته فازت به وإلا رجعت عليه به بعد عتقه ولا نظر لكونها ملكته لأن الممتنع ابتداء إيجاب للسيد على قنه لا دوامه لأنه أقوى وقد لا يجب بالكلية كأن أعتق مريض أمة لا يملك غيرها وتزوجها وأجاز الورثة عتقها فإنه يستقر النكاح ولا مهر للدور إذ لو وجب رق بعضها فبطل نكاحها فبطل المهر (لا بخلوة في الجديد) لمفهوم قوله تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} الآية والمس الجماع وما روي أن الخلفاء الراشدين قضوا به بالخلوة منقطع ولا يستقر بها في نكاح فاسد إجماعًا».
وجاء في «الغرر البهية» من كتب الشافعية (4/183-184): «والمباشرة في غير الفرج والخلوة بلا وطء حتى لو طلقها بعد ذلك لم يجب إلا الشطر لآية {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} أي: تجامعوهن».
(2) «المغني» (7/193).
(3) «المغني» (7/191).