«دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية» بعض منتسبي الحركات الإسلامية تقول عنها: إنها دولة علمانية، ولكن استخدام هذا المصطلح إنما هو من باب الدجل السياسي على عوام الناس؛ حتى لا يستخدم مصطلح «العلمانية» السيئ السمعة، فهل هذا صحيح؟ وهل ما يدعو إليه بعض منتسبي الحركة الإسلامية من دولة دينية هو صحيح شرعًا مبدئيًّا؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن هذه المصطلحات الحادثة يُستفصَل من أصحابها عن مقصودها: فإن وصفوا لنا مقصودًا صحيحًا قبلنا به، ولا مشاحة في الاصطلاح، وإن وصفوا لنا مقصودًا باطلًا رددناه، وبينا له توجيه ذلك.
إن تعبير «الدولة المدنية» تعبير مجمل؛ فقد يراد به نقل مرجعية الأحكام من الوحي إلى العقل، ومن الشريعة إلى الهوى، وهي بهذا المعنى مردودة لا محالة، وتلك هي «العلمانية» التي بشرت بها الثورة الفرنسية في أعقاب سقوط الطغيان الملكي والكنسي، وكان لها يومئذ ما يفسر انقلابها على الطغيان الكنسي الذي لم يعد أحباره يمثلون كلمة الله، بل كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون: هذا من عند الله! ومن باب أولى كان لها ما يفسر انقلابها على طغيان الملوك واستطالتهم على عباد الله، وحكمهم بالحق الإلهي المزعوم الذي تصبح به كلمته وحيًا مقدسًا، وقراراتهم تنزيلًا من التنزيل! وما ينبغي لهم ذلك وما يستطيعون!
والدولة الدينية التي يتحدثون عنها لا وجود لها إلا في الدولة الدينية التي عرفتها أوربا في عصورها المظلمة، تلك الدولة التي كانت تحكم بنظرية الحق الإلهي للملوك أو للبابوات، وهي التي اصطُلح على تسميتها بـ«الدولة الثيوقراطية»، وهي التي يعتبر فيها الملك أو البابا ممثل الله على الأرض، فكلمته وحي معصوم، وإرادته تنزيل من التنزيل، ومعارضته هرطقة وزندقة! وهي الدولة التي أطلقت الثورة الفرنسية في مواجهتها شعار: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).
أما إن قصد بها الدولة التي تجعل السلطان على الولاة والأئمة لجماعة المسلمين، وتقرر أن الأمة هي التي تهيمن على ولاتها وأئمتها توليةً ورقابةً وعزلًا، مع الإقرار للشريعة بالمرجعية، وجعل الشورى في دائرة المباحات والعفو التشريعي وما كان من قبيل السياسة الشرعية، فهذا المعنى صحيح، وهو الذي يمثل نظام الحكم في الإسلام كما عرفه الفقهاء الأئمة والولاة العادلون عبر التاريخ، وأي انحراف عن هذا المسلك فلا يحسب على الإسلام ولا ينتسب إلى الشريعة، وإن لبس لبوسها وادعى الانتساب إليها، والله ورسوله من ذلك بريئان.
وهي أبعد ما تكون عن تلك التي عرفتها أوربا في عصورها المظلمة؛ لتنافي الثانية مع أبجديات التوحيد وبدهيات العقائد، فولاة الدولة الإسلامية بشر من البشر، يُخطئون ويُصيبون، والأمة عيار عليهم إن خرجوا عن الجادة فإما أن تُقوِّمهم أو أن تعزلهم، والخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأتُ فقَوِّموني(1).
والتشريع في الدائرة التي حكمت فيها الشريعة ليس لأحدٍ أن يتجاوزه، وأما ما تركته عفوًا للناس فيأتمر فيه الناس بينهم بمعروف، ويجتهدون في اختيار الأفضل والأقوم بمصالح الأمة.
ويستفاد في هذه الدائرة من التراث الإنساني والإنجازات الإنسانية في مشرق أو مغرب، كما أَخَذ عمرُ نظامَ الدواوين عن الفرس، ويختار لكل ولاية الأقوم بمصالح هذه الولاية، فليس معنى إسلامية الدولة أن يحكمها المشايخ في كلِّ مرافقها، فيؤتى بشيخٍ في الفقه ليكون عميدًا لكلية الطب، أو ليكون وزيرًا للصحة مثلًا، إن هذا التصور الساذج لا وجود له إلا في أهواء الغافلين أو الشانئين! بل يُؤتى في كلِّ ولاية بمن تحققت فيه الكفاية والصيانة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26].
وصفوة القول: إن الدولة الإسلامية دولة مدنية تحكم بالشريعة؛ فأرجو ألا نُغرق في دوامة الجدل حول المصطلحات، إن المقصود هو دولة تُقر بمرجعية الشريعة في علاقة الدين بالحياة، فتُقيم سياستها على هدي من دينها، فإن الدولة الإسلامية نيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
ويجب أن نُفرق بين مصدر السلطة السياسة ومصدر النظام القانوني، فالسلطة السياسية مصدرها الأمة، أما النظام القانوني فمصدره الشرع، فإذا اتفقنا على ذلك فلا مشاحة في المصطلحات. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (11/336) حديث (20702).