الدعوة إلى تطبيق الشريعة هي المحور الذي دار حوله وانبثق منه فكر الإسلام السياسي، فهل تُعتبر هذه الدعوة والإلحاح عليها في كل المناسبات كقميص عثمان الذي استخدم في التاريخ لتسويغ القلاقل والاضطرابات، وتوظيف الدين لتحقيق مآرب شخصية ومطامع دنيوية وسلطوية؟ وإذا كان الذين يحملون هذه الدعوة صادقين فيما يزعمونه من التدرج وتهيئة الأجواء فلماذا إذن هذا التسابق المحموم في توظيف هذه الدعوى لإحراز مكاسب سياسية أو لتسجيل أهداف في مرمى الآخرين؟ أفتونا مأجورين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلعل اختزال الشريعة عند بعض الكُتَّاب والساسة في جانب العقوبات أو قضايا الدولة وحدَها- هو الذي أنشأ مثل هذا اللبس، وما الحدودُ في حقيقة الحال إلا جزء من المعاملات، وما المعاملات إلا جزء من الشريعة، التي تنتظم العقائدَ والأخلاق والعبادات والمعاملات، فهي الطابق الرابع من عمارة الإسلام إذا صحَّ التعبير.
فلنبدأ أولًا بتحرير هذا المصطلح: الشريعة، ثم ننظر فيما يلي ذلك من مقتضيات بإذن الله.
ماذا يراد بالشريعة؟
إن الشريعة هي كل ما شرعه الله لعباده من الدين، فهي تنتظم العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وهي بهذا المعنى مرادفة لكلمة الدين، والدعوة إلى تطبيق الشريعة هي الدعوة إلى إقامة الدين: عقيدةً وأخلاقًا وعبادات ومعاملات، والدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة هي الدولة التي تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به؛ فهل يمكن القول بأن الدعوة إلى إقامة الدين تُعتبر من قبيل الغلو في الدين؟! أو يمكن أن تُفسَّر دائمًا على أن وراءها مآرب سلطوية وأطماعًا دنيوية.
فالشريعة إذن في مدلولها العام وعندما توضع في إطارها الصحيح هي الإسلام، فالقبول بها قبول بالإسلام، وردُّها ردٌّ للإسلام، وإن الدعوة إلى تطبيق الشريعة دعوة إلى تصحيح أصل الرضا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا.
فما آمن بالله ولا رضي به ربًّا من أدارَ لكتابه ظهره، وتحاكم إلى غيره؛ فإن الله يقول في محكم التنزيل: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم﴾ [يوسف: 40]. ويقول تعالى عن بني إسرائيل: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [التوبة: 31].
ولقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الربوبيَّة لم تكن في مقام التحنُّث والتنسُّك بل كانت في مقام التحليل والتحريم، فكان الأحبارُ والرهبان يُحلُّون لهم الحرامَ فيستحلُّونه، ويحرِّمون عليهم الحلال فيحرمونه، فاتخذوهم بذلك أربابًا من دون الله.
ودل ذلك على أن كلَّ من أطاع غيرَه في خلاف الدين، وهو يعرف أنه خلاف الدين والتزم بالطاعة المطلقة له في ذلك؛ فقد اتخذه ربًّا من دون الله.
وما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا رضيه رسولًا من أَبَي التحاكم إلى شريعته، وقد قال الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْـجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ أَبَى». قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْـجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»(1).
وما آمن بالإسلام ولا رضيه دينًا من أبى الاستسلام لشرائعه والانقياد لهديه؛ فإن الإسلام هو الاستسلام لله وحده، فمن أبي الاستسلام لله كان مستكبرًا عن عبادته، ومن استسلم له ولغيره فقد لبس توحيده بشرك، والمشركُ بالله والمستكبر عن عبادته كلاهما بعيد عن الإيمان به.
فالدعوة إلى تطبيق الشريعة إذن دعوة إلى تصحيح عقد الإسلام، وإلى تجديد الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا.
ومن ناحية أخرى فإن الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست مطلبَ أحزاب الإسلام السياسي وحدها، بل هي مطلب الأمة الإسلامية كلها من أقصاها إلى أقصاها، في داخل مصر وفي خارجها على حدٍّ سواء، إذا استثنيت قلة قليلة من غلاة العلمانيين العقديين الذين يرفضون القضية جملةً وتفصيلًا، ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون!
وحسبك للتدليل على أنها إرادة الأمَّة كلها أنه طوال الحقبة الماضية وعلى الرغم مما تعاقب عليها من صُور الاستبداد ومن سيطرة المناهج الوضعية، ما من حزب من الأحزاب السياسية إلا وكان يضعُ في مقدمة برنامجه الانتخابي إشارة إلى قضية تطبيق الشريعة بوجه أو بآخر؛ لما يعلمه من إجماع الأمة كلها على هذا المطلب، ودعمها لدعاته، وأنه لا سبيل إلى كسب ثقتها وتأييدها إلا بهذا الطريق.
مخاوف مشروعة:
ومع كل ما تقدَّم فلا ننكر أن لدى قطاعات كبرى من عموم الأمة مخاوف مشروعة، من سوء القراءة وسوء التطبيق لهذه القضية المركزية في المشهد السياسي في واقعنا المعاصر، وقد رأينا تجاربَ شركات توظيف الأموال التي تداعى إليها أصحابها باسم الشريعة، وما شابها من التجاوزات، وما أعقبها من آثار كارثية.
ومن هذه الكوارث ما كان مردُّه إلى الأنظمة القمعية، وحقدها على حملة المشروع الإسلامي، ومنها ما كان مردُّه إلى وهن داخلي في بنية هذه الشركات، وآلية انضباطها بأحكام الشريعة.
بل ولدى كثير من الناس ما تختزنُه ذاكرته من بعض المواقف الأسيفَة والتجارب المريرة في الحراك الدعوي بين بعض الفصائل الإسلامية، أو الحراك السياسي بينها، وما شابه في بعض الأحيان من بغي وتظالمٍ وتطاول على ذوي القربى، شركاء المسير ورفقاء الطريق.
ومن حقِّ هؤلاء وأولئك أن يطمئنوا إلى حسن التطبيق من خلال آليات منضبطة، ووسائل محكمة، وليس بمجرد الشعارات والخطب البليغات. ومن يقف عند هذه النقطة ويطالب بضمانات تمنع الجَوْر والبغي باسم الشريعة، فنحن جميعًا معه، معه نطالب بما يطالب به، ونشاركه، أو حتى نحمل عنه عناء الكدح في هذا المجال، فإن البغي عندما يمارس باسم الشريعة وتطبيقها يتحوَّل إلى قربة من القربات، وتستباح به كثير من الحرمات، وأهل السلطان إذا ظلموا ظلموا ظلمًا لا يقدر عليه أحد، كما أنهم إذا أحسنوا أحسنوا إحسانًا لا يقدر عليه أحد.
الشريعة قضية أمة وليست قضية حزب أو جماعة سياسية:
وإذا كانت قضية الشريعة قضية أمة وليست قضية حزب من الأحزاب أو جماعة من الجماعات، فإن من الإنصاف للشريعة أن تخرج من حلبة المنافسات السياسية؛ لأنها أقدس من كل هذه المنافسات، وأعظم من كل هذه التجاذبات، ولا نريد أن يُعاديها فصيل من الناس لمعاداته لحزبٍ أو لجماعة، أو لتنافسه مع هذا الفريق أو ذاك، بل يجب أن تبقى لها قداستها ومهابتها ومرجعيتها في ضمير الأمة قاطبة، وألا يدندن حولها بعد استقرار مرجعيتها الفرقاء السياسيون المتخاصمون، وألا يوظفها أحدٌ لتسجيل هدف في مرمى الفريق الآخر؛ حتى لا تكون مادة خصومة، أو محورًا من محاور الصراع والجدل.
إحالة ملف الشريعة إلى جهة تجمع بين التخصص والحيادية:
وإذا كانت المخاوف من سوء تطبيقها مخاوف مشروعة؛ فإن من الإنصاف لها والعدل في التعامل مع هذه المخاوف أن تُحال إلى جهة تجمع بين التخصص والحيادية، وينقل إليها هذا الملف بالكلية، وهي لدينا في المشهد المصري الأزهر ممثلًا في قيادته وهيئة كبار علمائه ورموزه العلمية بعد إعادة هيكلته وانتخاب مجالسه وشيوخه، ويبقى دور هذه الأحزاب الإسلامية دور المراقب لها، والداعم لأدائها، والمثمن لجهودها، والنازل على اجتهاداتها واختياراتها العلمية والعملية؛ فإن ما تكرهون في الطاعة والجماعة خير مما تحبون في المعصية والفرقة.
فالأزهر لم يكن جزءًا من منظومة هذه الصراعات الحزبية، بل وقف على مساحات متقاربة منها جميعًا، ولا توجد بينه وبين أحد من أطراف المشهد السياسي خصومةٌ ولا وتر تاريخي، والحديث عن وسطيته ممَّا يدندن حوله الجميع، سواء أكان هذا الحديث منهم حقيقة أم كان منهم مداراة ومصانعة، ولم يستعلن أحد من الفرقاء السياسيين بأن الأزهر يُمثل التطرف أو يجسد أحد مشاهد الغلو في واقعنا العاصر.
ولقد أحسن أحدُ المرشحين للرئاسة صنعًا عندما كان يجيب بذلك على كل سؤال يطرحه أحد خصومه وكأنه مصيدة له أو كمين يدفعه إلى السقوط فيه، فكان جوابه سأجمع بين المتخصصين في هذا المجال وبين أهل الفتوى في الأزهر سواء في مجمع البحوث أو في هيئة كبار العلماء، وما يتفقون عليه سأعمل به.
وقبل أن أتجاوز هذه النقطة، أسجِّل تحفظي الشديد وإنكاري البالغ على إطلاق القول بأن الباعث على ما وقع بين الصحابة من الفتن كان المآرب الشخصية، والمطامع الدنيوية والسلطوية. فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلُّ من ذلك قدرًا، وأرفع من ذلك مقامًا، وأعمالهم ما بين ذنب مغفور أو سعي مشكور، وكلهم كان مجتهدًا في نُصرة الحق وَفق ما أدَّاه إليه اجتهاده، وأهل السُّنة جميعًا يُمسكون ألسنتهم عما شحر بينهم من الفتن، ويذكرونهم جميعًا بالخير، فيترضَّوْن عنهم جميعًا، ويُثنُون عليهم جميعًا ويكِلُون أمرهم جميعًا إلى الله صلى الله عليه وسلم .
حول تهيئة المجتمع لتطبيق الشريعة:
أما ما أُشير إليه من التريُّث حتى يتهيأ المجتمع وتتحقق المواءمة السياسية؛ فإن الجواب على ذلك أن ذلك من الحقِّ الذي نرجو ألا يُراد به باطل، فإن تهيئة المجتمع لا تكون بالدعاوى المجردة التي ربما اتخذت مَشجبًا تُعلق عليه كل دعاوى التثبيط والوهن، وإنما تكون باتخاذ الخطوات العملية الجادة التي تدرج بالأمة على طريق الطهر والفضيلة، وتنأى بها عن سعار الشهوات والشبهات.
إنها تكون بالمبادرة إلى التطبيق المرحلي للشريعة في عدد من القطاعات؛ فإن هذه التهيئة تبدأ بإصلاح مناهج التعليم، وبرامج الإعلام، ودعم أجهزة الدعوة إلى الله، وكل ذلك جزءٌ لا يتجزأ من قضية تطبيقِ الشريعة؛ فقد جاءت الشُّبهة من اختزال القوم للشريعة في الحدود، ثم قالوا: إن الشريعة- يقصدون الحدود- لا سبيل إلى إقامتها إلا بعد تهيئة الأمة وتحقيق المناخ السياسي الملائم، وقد أجبنا على ذلك في صدر هذه الفتوى، عندما ذكرنا أن الحدود جزء من المعاملات، وأن المعاملات جزء من الشريعة التي تنتظم العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات.
فلنبدأ بتهيئة الأمة لذلك من خلال إصلاح الخلل في أجهزة الدعوة والتعليم والإعلام، ولنبادر بتطبيق شريعة الله في هذه الأجهزة؛ حتى تساهم في توفير المناخ الملائم لتطبيق بقية أحكام الإسلام إن كنا صادقين، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد دعاوى للاستهلاك السياسي لتسويغ الفصل بين الدين والحياة، وتكريس الخصومة المفتعلة بين الدين والدولة؟!
من توصيات رجال القضاء في قضية الشريعة:
وهذا طرف من خطة رشد في هذا المجال أسوقها من خلال توصيات الخبراء من رجال القضاء والقانون في مصر، ففي مؤتمر العدالة الأول الذي عقد بنادي القضاة بالقاهرة في شعبان 1406 هـ، وحضره جمهور القضاة في مصر وافتتحه رئيس الجمهورية تضمنت توصياته فيما يتعلق بتطبيق الشريعة ما يلي:
إعمالًا لما تنصُّ عليه المادة الثانية من دستور جمهورية مصر العربية؛ من أن مبادئَ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع يوصي المؤتمر باتخاذ الخطوات الآتية:
1- إصدار مشروعات القوانين مستمدَّة من الشريعة الإسلامية، ومراجعة سائر التشريعات لتتفق في أحكامها مع مبادىء الشريعة.
2- أن يواكب إصدار تلك التشريعات وتنفيذها تهيئة المناخ العام الملائم في مجالات التعليم والتربية والإعلام والثقافة والتكافل الاجتماعي وغيرها من المجالات.
3- أن تتولى كليات الحقوق بالجامعات ومركز الدراسات القضائية دراسة الشريعة الإسلامية العنايةَ اللازمة بالقدر الذي يتناسب مع دورها بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع.
أسأل الله جل وعلا أن يرينا الحق حقًّا وأن يرزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وأن يرزقنا اجتنابه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يأخذ بنواصينا إليه أخذ الكرام عليه، وأن يجنب بلادنا مُضلات الفتن. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» باب «الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم » حديث (7280) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .