رجل حافظ للقرآن بجميع القراءات، وقد تثبَّتنا من ذلك، وهو أيضًا حافظ لجميع كتب الحديث الصَّحيحة حفظًا مذهلًا، لدرجة أننا ظننَّا أن معه جنًّا؛ لأن حِفظَه لكتب التَّفاسير والفقه والحديث الضَّعيف والصَّحيح حتى الطَّبعات المختلفة، فقد كنا إذا قرأنا وأخطأنا فقفزنا كلمة أو جملة أو سطرًا كان يُصلح لنا أخطاءنا ويقول: أما في طبعة كذا ستجد كذا. ويصدق.
أما خُلقه أكاد أجزم أنني ما رأيتُ مثله في الكرم والتواضع، الكارثة أنه يُنكر أن الإجماعَ والقياسَ حجة، ولكن لا يُنكر المسائل المجمع عليها، ويقول: هي مسائلُ لا يُعلم فيها خلافٌ. ويُصلِّي هذا الرجل خلف من يُخالفه.
السؤال: هل مثله نُكفِّره؛ لأنه كان معنا علماء وأئمة وشيوخ وعجبوا من حفظه، وقد ناقشناه وكان يقول لهم: لا تجمعوا العامة لمثل ذلك. فقالوا له: أتخشى أن تُهزم أمامهم؟ فسكت، لكن الشيوخ قالوا بعدما انصرف: أسأنا له، ولَيْتنا سمعنا له وما دعونا أحدًا.
الرجل كان سرعان ما تنهمر دموعه وهو يكبحها، وكان يقول أيضًا: إن العامي لا يجوز له أن يُحدِث رأيًا أو أن يُخالف ما ذهب إليه أهل العلم، فإن كانت المسألةُ لا يعلم لها خلافًا لا يجوز للعامي أن يُخالف؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد.
لكن الحقَّ أحقُّ، هو يُنكر أصلًا من أصول الدِّين، وبه يكفر عن بيِّنة، فهو على علمٍ بمن يقول: إن الإجماع من مصادر التَّشْريع، ولمعلوماتكم فهو يرفض استخدام كلمة «مصادر التَّشْريع»، والمصيبة أنني سمعتُ أن بعضَ القبائل تنوي قَتْله درءًا للفتنة، فما حكم ذلك؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فما أعجب ما جاء في رسالتك! متى كانت دماء المسلمين تُهدَر بهذه الخِفَّة وبهذه العجلة؟! ثم مَن ذا الذي يُقيم الحدود إذا افترضنا جدلًا- وهو افتراضٌ غير صحيح- أن صاحبَ هذه المقولة مُهدَرُ الدم؟! يا لله العجبُ! لقد أنكر ابنُ حزمٍ العملَ بالقياس ولم يَقُل أحدٌ بإهدار دَمِه، وكان يقول في الإجماع قريبًا مما يقوله صاحبكم، ولعل صاحبَكم تأثر بكُتُب ابن حزم في هذا الصَّدَد، ولا أَحْسَب أن أحدًا فكَّر في إهدار دمه بذلك؛ فضلًا عن أن يقول به! بل لم تَزَلِ الأمة تستفيد من علمه وتتجنَّب ما خالف فيه الجماعة، وقد علمتَ ما قاله إمامُ أهل السنة أحمد بن حنبل حول دعاوى الإجماع، حيث كان يقول: وما يُدريه لعل النَّاسَ اختلفوا(1)؟!
كُفُّوا أيديَكم عن هذا الرجل واستفيدوا مما عنده من علمٍ، وتجنَّبوا ما تعتقدون أنه قد خالف فيه الجماعة، بعد أن تُحقِّقوا القولَ في ذلك مع أهل الفتوى، وائتمروا بينكم بمعروفٍ. ونسأل اللهَ لكم التَّوفيق، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــ
(1) من المصادر التي وردت فيها العبارة المنقولة عن الإمام أحمد «المسودة» لآل تيمية ص (283)، فورد فيها: «وقد أطلق القول في رواية عبد الله فقال: من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه».
وكذلك «التحبير شرح التحرير» للمرداوي (4/1526)، قال فيه: «مَن ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم».
وروى ابن حزم في «المحلى» (11/36) بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: «سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ولم ينته إليه، فيقول: لا نعلم الناس اختلفوا، هذا دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، ولم يبلغني ذلك».