شخص مسلم يقول: يجب أن تُحب النصارى المسالمين الأمناء من قلبك؛ لأنك إذا عاملتهم بصورة حسنة وقلبك لا يحبهم فأنت منافق تُبطن عكس ما تُظهر، وهذا لا يجوز، والله تعالى لم يقل لنا: لا تحبوا المسالمين من قلوبكم، وكفرهم على أنفسهم، لهم دينهم ولنا ديننا.
فما رأي فضيلتكم في هذا الكلام، وخاصة جزئية أن من لا يحبهم من قلبه فهو منافق؟ وهل هناك أدلة على ذلك من القرآن؟ مع العلم أن كلامه مقنع وعقلي.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن من المحبة ما هو جِبِلِّيٌّ فطري غريزي، وهو ما جُبلت عليه النفوس من حُبِّ ما يشاكلها من الأذواق والألوان والأطعمة والأشربة، أو ما تستريح إليه من الصفات النبيلة والخلال الحميدة، أو الميل الفطري للأهل والرحم والجيرة والعشيرة، أو ما أُودع في قلوب الأزواج تُجاه أزواجهم من المودة والرحمة، وكل ذلك لا تثريب على أصحابه ما دام لم يحمل على فعل باطل أو ترك واجب، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه سلم في شأن عمه أبي طالب الذي فارق الدنيا وقد أبى أن يشهد شهادة الحق رغم حرص النبي ﷺ على ذلك وإلحاحه في عرض الشهادة عليه حتى فرطت أنفاسه: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]، وقال تعالى في العلاقة بين الأزواج: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
وقد تكون الزوجة كتابية: يهودية أو نصرانية، ومن المحبة ما هو اختياري شرعي، ويكون على أساس الاشتراك في الدين والمنهج والمعتقد، ومن البدهي أن هذا اللون من المحبة إنما ينشأ بين أتباع الدين الواحد والمنهج الواحد، ويزداد قوة أو ضعفًا بحسب قوة التدين أو ضعفه.
فالولاء الديني يقتضي محبة أهل الدين، ونصرتهم فيه، والبراءة ممن يعادونهم فيه، وعدم مشايعتهم على ذلك بقولٍ أو عمل، وهذا القدر مشترك ديني وبشري عام، تتفق عليه الملل والنحل جميعًا.
ولا يجوز أن يحمل على ظلم المخالف أو الاستطالة عليه أو تكليفه فوق طاقته، وقد قال نبينا ﷺ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ- فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1)، ومِن قبل ذلك يقول الرب جل وعلا: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].
وإذا كان الأصل في كلمة الأخوَّة عند إطلاقها أن تنصرف إلى أخوة الدين، فإن هذه الأخوة الدينية لا تنفي ما عداها من أخوة النسب أو أخوة القبائل والعشائر، أو الأوطان، ولا تتنكر لما ينشأ عنها من حقوقٍ وتَبِعات، ما لم تُفضِ إلى إبطال حقٍّ أو إحقاق باطل.
فللأخوة دوائر متداخلة وليست متقاطعة، وعلى قمتها أخوة الدين، ولكلِّ مستوًى منها حقوق وعليه واجبات أقرَّها الإسلام.
ومحبة أهل الدين محبة دينية جبلية لا تنفي ما تُنشئه القرابة والصلات الاجتماعية والمصالح البشرية من مودة ومحبة جبلية، ما لم يتضمن مشايعة على باطل، أو انتقاصًا من حق.
وإذا انفكت جهة الحب وفرقت بين أنواعه على هذا النحو زال هذا التعارض الموهوم، أو النفاق المزعوم. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الخراج والإمارة والفيء» باب «في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات» حديث (3052) عن عدة من أبناء أصحاب النبي ﷺ عن آبائهم، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (445).