شغل منصب القضاء في ظل القوانين الوضعية

فضيلة الشيخ، لقد حكمت القوانين الوضعية أغلبَ بلاد المسلمين كما تعلمون، وأُنشِئت كليات للقانون تدرس هذه القوانين الوافدة، فما حكم القضاة الذين يتقلدون منصبَ القضاء في ظل هذه القوانين؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن القضاة في ظل العلمانية أنواع:
• فمنهم من كان تحكيمُه للقوانين الوضعية التي تضاد الشريعة الإسلامية كقوانين العقوبات، وبعض القوانين المالية التي تُجيز الربا والغرر ونحوه، من كان تحكيمه لها- مع علمه بمضادتها لأحكام الشريعة- إيمانًا بصلاحيتها، وتسويغًا للحكم بها، وردًّا لأحكام الشريعة الإسلامية، فهذا له حكم أمثاله من العلمانيين العقديين.
• ومنهم من كان تحكيمُه لها كرهًا وإلجاءً؛ لانعدام البديل الشرعي، وعدم قدرته على التغيير، مع بقاء إيمانه بالشريعة، واعتقاده صلاحيتَها ووجوبَ تطبيقها، وسعيَه في ذلك ما استطاع، وكان له نوع تأول في بقائه في هذا الموقع، (تقليل المفاسد، وتخفيف المظالم، أو تحقيق بعض المصالح) ففعله هذا في محل الاشتباه، ويبقى له حكم أمثاله من أهل الإسلام، وأمره مفوض إلى الله.
• ومنهم من كان تحكيمه لها غفلة أو شهوة، أو تفريطًا وتهاونًا، مع بقائه في الجملة على أصل الإيمان بالله ورسوله، فهذا له حكم أمثاله من أهل الوعيد، وهو في خطر المشيئة يوم القيامة، وفي مثله وردت نصوص بعض السلف الصالح: كُفر دون كُفر.
• أما العمل في مجالات القضاء التي لا تُنافي قوانينُها وأحكامُها الشريعةَ الإسلاميةَ كالقضاء الإداري ونحوه، فلا حرج فيه إن حسُنت فيه النية وقصد به أن يكون وكيلًا عن المظلوم في تخفيف ما يقع عليه من مظالم، ولم يقصد به أن يكون وكيلًا عن الظالم مشايعة له على بغيه وإعانة له على ظلمه.
وبقيت كلمة حول خطورة منصب القضاء، فـ«لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ»(1).
وقد كان السلف يهربون من تولي القضاء ويصبرون على ما يصيبهم في ذلك من الأذى والبلاء، وفي الباب حديث: «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ»(2).
وحديث ابن بريدة عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْـجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْـجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْـحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْـحَقَّ فَجَارَ فِي الْـحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ»(3).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو يعلم الناس ما في القضاء ما قضوا في ثمن بعرة، ولكن لابد للناس من القضاء، ومن إمرة، برة أو فاجرة(4).
وعن عمر رضي الله عنه قال: ويل لديَّان أهل الأرض من ديَّان أهل السماء؛ إلا من عدل، ولم يقض لهوى ولا قرابة ولا لرغبة، وجعل كتاب الله مرآةً بين عينيه(5).
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا ولي الرجلُ القضاء: فليجعل للقضاء يومًا، وللبكاء يومًا(6).
وعن مكحول قال: لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحبُّ إليَّ من أن ألي القضاء(7).
ولا شيء يعدل السلامة؛ لاسيما في أزمنة الفتن وفُشُوِّ دعاة الضلالة. والله تعالى أعلى وأعلم.

______________
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/75) حديث (24508) من حديث عائشة رضي الله عنها، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/192) وقال: «رواه أحمد وإسناده حسن».
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «الأقضية» باب «في طلب القضاء» حديث (3572)، والترمذي في كتاب «الأحكام» باب «ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي» حديث (1325) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن».
(3) أخرجه أبو داود في كتاب «الأقضية» باب «في القاضي يخطئ» حديث (3573) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وقال: «وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة: القضاة ثلاثة».
(4) أخرجه ابن حيان في «أخبار القضاة» (1/21).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/540) حديث (22962).
(6) أخرجه ابن حيان في «أخبار القضاة» (1/24).
(7) أخرجه ابن حيان في «أخبار القضاة» (1/24).

تاريخ النشر : 18 ديسمبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية, 18 القضاء

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend