أود أن أعرف: هل هناك خلافٌ معتبَر على حُكم المرتد بين أئمة المذاهب المعتبَرة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فنبادر إلى القولِ بأن الحدودَ بصفةٍ عامةٍ لا مدخلَ فيها لآحادِ الناس، وإنما تُناطُ بالدولةِ ذاتِ الشوكةِ والمنَعَةِ، فهي التي تتولَّى استتابةَ المرتدِّ وإزالةَ شُبَهِه، وتسعى إلى استحيائه بالتوبةِ، فإن استحياءه بالتوبةِ أحبُّ إلى الله جل وعلا من قتلِه على الردة، أما إذا أصرَّ على ردَّتِه بعد زوالِ شُبَهِه وإقامةِ الحجةِ عليه فإنَّ عقوبتَه القتل كما اتَّفَق عليه أهلُ العلم، ومِن أدلتهم على ذلك:
• قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»(1).
• قوله ﷺ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُولُ الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْـمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ»(2).
• أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بَعث أبا موسى إلى اليمن، ثم أَتبَعَه معاذَ بن جبلٍ، فلما قَدِمَ عليه معاذٌ ألقى له وسادةً، قال: انزل. وإذا رجلٌ عندَه مُوثَقٌ. قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًّا فأسلم، ثم رَاجَعَ دِينَه دينَ السُّوء فتهوَّد. قال: لا أجلسُ حتى يُقتَل؛ قضاءُ الله ورسولِه. ثلاثَ مرات. فأمَرَ به فقُتل(3).
• مبادرة الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقتال المرتدِّين، وتقديم ذلك على قتال الكفارِ عمومًا(4).
ولكن وقع خلافٌ في قتلِ المرتدةِ، فقال الجمهور: يُقام عليها الحدُّ كما يُقام على الرجلِ ولا فرقَ، ونازع في ذلك أبو حنيفةَ :(5) وقليلٌ مِن أهلِ العلم، فقالوا: إن المرتدة لا تُقتَل؛ لأنها ليست مِن أهل القتال، بل تُحبَس حتى تُحدِثَ توبةً، واحتجوا بنهيِ رسولِ الله ﷺ عن قتلِ النساء(6)، فخَصُّوا به عمومَ حديثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
وهو احتجاجٌ عجيبٌ؛ لأن هذا النهيَ واردٌ في بابِ الجهادِ، والمرأةُ مِن شأنها ألا تقاتل؛ فليس هذا مِن ذاك. فهذا هو الخلاف الذي أذكرُه في هذا الباب. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم» باب «حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم» حديث (6922) من حديث ابن عباس ب.
(2) متفق عليه أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث عبد الله بن مسعود.
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم» باب «حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم» حديث (6923)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها» حديث (1824).
(4) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم» باب «قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة» حديث (6924)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» حديث (20)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي النبي ﷺ واستُخلف أبو بكر وكفَر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله- فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»؟! قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يُؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
(5) جاء في«المبسوط» من كتب الحنفية (10/108-111):«ولا تقتل المرتدة، ولكنها تحبس، وتجبر على الإسلام عندنا».
(6) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الجهاد والسير» باب «قتل النساء في الحرب» حديث (3015)، ومسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب» حديث (1744)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله ﷺ فنهى رسول الله ﷺ عن قتل النساء والصبيان.