هل يُعتبر الكفرُ وحدَه موجِبًا للقتل أو القتال في جميع الأحوال، أم أن الـمُوجِب للقتال هو الحرابَةُ والعدوان؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلقد تمهَّد لدى أهلِ العلم بالشريعة أن الكفرَ وحده ليس موجِبًا للقتل في جميع الأحوال؛ وذلك لأدلة كثيرة، نذكر منها:
• قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256].
• وما شرع من تخيير الكفار بينَ الإسلام وبذلِ الجزية والقتال.
• وما تقرَّر من النهي عن قتل من لا شأن له بالقتال، كالنِّساء والصبيان وكبار السنِّ والمنقطعين للعبادة الذين لا يُشاركون المقاتلين بالفعل أو الرأي، والأدلة على هذا كثيرةٌ ومستفيضة.
ومن الأدلة على هذا الأخير:
1- قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190].
قال القرطبي: «قال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي مُحكمة، أي: قاتلوا الذين هم بحالةِ من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتلِ النساء والصبيان والرهبان وشبههم»(1).
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن امرأة وُجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولةً، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان(2). قال النووي في «شرح مسلم»: «أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والأطفال إذا لم يقاتلوا»(3).
3- عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سَريَّة أوصاه ثم قال: «اغْزُوا بِاسْمِ الله فِي سَبِيلِ الله، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بالله، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا»(4).
4- عن رياح بن ربيع قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناسَ مجتمعين على شيء فبعث رجلًا فقال: انظر إلى ما اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: على امرأة قتيل. فقال: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ»، وعلى المقدمة خالد بن الوليد، قال: فبعث رجلًا فقال: «قُلْ لِخَالِدٍ: لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا»(5).
فاستنكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم قتلَ المرأة، وبيَّن سبب استنكاره وهو كونها ليست من أهل القتال، فقَرَن النبيُّ صلى الله عليه وسلم كونها لا تقاتل بمنع قتلها، فدلَّ على أن علةَ القتل هي القتال.
وكذا ذِكرُه صلى الله عليه وسلم العسيفَ، وهو الأجير لحفظ المتاع والدواب فلا يقتل إلا إن قاتَل. وبناءً عليه فكلُّ مُستأجَرٍ لأعمال غير قتالية لا يجوز قتلُه ولو حضر لأرض المعركة.
5- عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه خرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان أميرًا على جيش فقال له: إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له(6).
6- عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اتقوا الله في الفلاحين(7).
وإن هذه النصوص مجتمعةً تدلُّ على أن القتالَ إنما هو لأهل المقاتلَةِ والممانعة، أما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة فلا يُقتل.
وفي تقريرِ هذا الأصل يقولُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإذا كان أصلُ القتال المشروع هو الجهادَ ومقصوده أن يكون الدين كلُّه لله، وأن تكون كلمةُ الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكُن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزَّمِن (الضعيف) ونحوهم، فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلا أن يُقاتِلَ بقوله أو فعله»(8). والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) «تفسير القرطبي» (2/348).
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجهاد والسير» باب «قتل الصبيان في الحرب» حديث (3014)، ومسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب» حديث (1744).
(3) «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/48).
(4) أخرجه مسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «تأمير الإمام الأمراء على البعوث» حديث (1731) من حديث .
(5) أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» باب «في قتل النساء» حديث (2669)، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2669).
(6) أخرجه مالك في «موطئه» (2/447) حديث (965).
(7) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (17938) حديث (9/91).
(8) انتهى مختصرًا من «مجموع الفتاوى» (28/354).