بين اعتبار القيمة أو المِثل عند رد الدين

إخوة توفي والدهم وكان أحدهم قد أخذَ دينًا من والده مقداره 35 ألف ريال يمني في عام 88 ميلادي، وكان الصرف آنذاك 10 ريالات، واليوم الصرف ما يقارب 220 ريالًا. فهل هذ انهيار للعملة؟ وهل يدفع ما عليه من دينٍ بالريال اليمني؟ علمًا بأن صرف 35 ألف ريال يمني آنذاك كان 3500 دولار أمريكي واليوم 35 ألف ريال يمني ما يقارب 170 دولار. ولكم الأجر والثواب.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الأصل أن تُؤدى الديون بأمثالها لا بقِيَمِها، ولا عبرة بالتذبذب في قيمتها ارتفاعًا وانخفاضًا، فلم تزل العملات ترتفع وتنخفض عبر القرون، ولم يكن لذلك أثرٌ على ما ثبت منها في الذمة، وهذا هو الذي عليه جماهير أهل العلم(1). ولم يعتبروا القيمة إلا عند بطلان العملة وإلغاء التعامل بها.
والنص بالقيمة في بطلانها *** لا في ازدياد القدر أو نقصانها(2)

وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي؛ حيث نص على أن العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تُقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ببلاد الحرمين: يجب على المقترض أن يدفع الجنيهات التي اقترضها وقتَ طلب صاحبها، ولا أثر لاختلاف القيمة الشرائية، زادت أو نقصت.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن الاعتبار عند رخص العملة بالقيمة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية(3)، وعليه الفتوى عند الحنفية. وهو أنه يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاءُ أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج.
وذهب الرهوني من المالكية(4) إلى أنه إذا كان التغيرُ فاحشًا وجب أداءُ قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاءُ أو الرخص، أما إذا لم يكن فاحشًا فالـمِثل.
وهذا هو الذي مال إليه الشيخ الألباني رحمه الله، فقد سُئل رحمه الله: ((اقترض من إنسان بالدينار، فاشترط عليه أن يردَّه بالدولار، فهل هذا الشرط صحيح؟ فأجاب: لا؛ لأنه قد يرتفع وينخفض، وإنما يرد له الدينار بقوته الشرائية يوم استقرضه))…
ثم قال: ((هذا الواجب، كيف لا؟! «خيركم خيركم قضاء، وأنا خيركم قضاء». لو أنك أقرضتني مائة دينار قبل سنة، واليوم المائة دينار تساوي خمسين دينارًا، الخمسون دينارًا لا يشتري ما كنت أشتريه بالمائة دينار اليوم، من القمح والشعير واللبن والأشياء الضرورية من ضروريات الحياة، فضلًا عن غيرها، فلا يجوز لي أن أكون شكليًّا ظاهريًّا، فأوفيك مائة دينار، وأقول لك: يا أخي أنا هذا الذي استقرضته منك، وهذا هو أنقده لك نقدًا))…
ثم قال: ((الضابط هنا: «خيركم خيركم قضاء، وأنا خيركم قضاء»(5)، «من أحسن لكم فكافئوه، فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه، فادعوا له حتى تكافئوه»(6).فهذا الذي أقرضك مائة دينار، أحسن لك أم أساء؟! أحسِنْ أنت لما وفيت له في وقت انخفاض قيمة الدينار أحسنت إليه أم أسأت؟ نعم أسأت))(7).
وهذا هو الذي نميلُ إليه ونُفتي به في التَّضخُّم الفاحش، ففي بعض البلاد يبلغ التضخُّم مبلغًا لا تبلغه التوقعات. لقد كانت الألف دينار بالعملة العراقية تشتري بها سيارة، وبعد الحصار بسنوات صارت هذه الألف يُشتري بها كيلو من الخضار أو الفاكهة. لاسيما إذا استصحبنا أن ربا النسيئة إنما حُرِّم لما فيه من الظُّلم، فإذا انعكست القضيةُ، وأصبح الغبن على الدائن، فلا حرج أن نرفع الظلم والغبن عنه؟!! وقد جاء في قرار لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حول تعويض فرق التضخم في الالتزامات المؤجلة ما يلي:
– الأصل أن ترد الديون بأمثالها لا بقيمها، ولا اعتبار لغلاء النقد أو رخصه، فلا يجوز ربطها أيا كان مصدرها، بمستوى الأسعار
– التماثل الحقيقي لا يتحقق بمجرد الشكل والصورة، وإنما بالواقع والجوهر، فحقيقة النقود ليست هي الورقة التي تمثلها، وإنما هي القوة الشرائية التي تتضمنها، فإذا ألغيت تصبح هذه الورقة كغيرها من الأوراق العادية .
– إذا ألغيت العملة فإنه يصار إلى القيمة بلا نزاع، أما إذا انهارت قيمتها أو نقصت نقصانا فاحشا فالقول بالقيمة متوجه، قياسا على وضع الجوائح، أو اعتبارا لنظرية الظروف الطارئة، ومعيار النقص الفاحش معيار عرفي، ويصار عند التنازع إلى التحكيم أو القضاء)
ومن ناحية أخرى فإن هذا الأمر إن لم يُقض به من قبيل توفية الحقوق، فقد يندب إليه من قبيل حُسن القضاء، وقد سبَق قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»(8). وهو يقتضي مراعاةَ النقص عند قضاء الدين.
ففي الواقعة المسئول عنها ينبغي على المدين أن يأخذ في اعتباره النقصَ الحادَّ الذي طرأ على العملة، فقد تفاوتت قيمة هذا الدين من 170 $ إلى 3500 $ أي ما يزيد على عشرين ضعفًا، وينبغي على الورثة أن يأتمروا في ذلك بينهم بمعروف، وأن يصلحوا بينهم صلحًا، وإن اختلفوا أُحيل الأمر إلى القضاء لإنصافهم. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________
(1) جاء في «الفواكه الدواني» (2/175) من كتب المالكية: «(وكل ما يوزن) كسمن وعسل ونحاس (أو يكال) كقمح أو يعد ولا تختلف أفراده وأتلفه شخص أو تسبب في إتلافه. (فعليه) غرم (مثله) في موضع إتلافه لمالكه لأن المثلي تقوم مقام مثله، وظاهره ولو استهلكه في الغلاء وقدر عليه في الرخاء وعكسه على مشهور المذهب».
وجاء في «روضة الطالبين وعمدة المفتين» (5/24) من كتب الشافعية: «فعلى هذا إذا قيل: من غصب حنطة في الغلاء فتلف المغصوب عنده، ثم طالبه المالك في الرخص، فهل يغرمه المثل أو القيمة، لم يصح».
وجاء في «مطالب أولي النهى» (3/186) من كتب الحنابلة: «لو سمي في عقد بيع أو قرض أو أجرة استوفي نفعها ألف من الفلوس أو الفضة أو الذهب المعلوم عند المتعاقدين، ثم تغير سعر المعاملة، فلا يجب إلا ما يسمى ألفا عند العقد من جنس المسمى، ولا عبرة بما طرأ».
(2) «المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد».
(3) جاء في «تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق» (4/143): «(وبالكاسدة لا حتى يعينها) أي إذا باع بالفلوس الكاسدة لا يجوز البيع حتى يعينها؛ لأنها سلع، فلا بد من تعيينها قال (ولو كسدت أفلس القرض يجب رد مثلها)، وهذا عند أبي حنيفة – رحمه الله – وقالا يجب عليه رد قيمتها؛ لأنه تعذر ردها كما قبضها؛ لأن المقبوض ثمن، والمردود ليس بثمن ففاتت المماثلة فتجب القيمة كما لو استقرض مثليا فانقطع عن أيدي الناس لكن عند أبي يوسف تعتبر قيمته يوم القبض وعند محمد يوم الكساد».
(4) «حاشية الرهوني» (5/121).
(5) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس» باب «حسن القضاء» حديث (2393)، ومسلم في كتاب «المساقاة» باب «من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه وخيركم أحسنكم قضاء» حديث (1601)، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فأغلظ له، فهَمَّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا». فقال لهم: «اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ». فقالوا: إنا لا نجدُ إلا سنًّا هو خير من سنِّه. قال: «فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ- أَوْ خَيْرَكُمْ- أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً».
(6) فقد أخرج أحمد في «مسنده» (2/68) حديث (5365)، وأبو داود في كتاب «الزكاة» باب «عطية من سأل بالله» حديث (1672)، والنسائي في كتاب «الزكاة» باب «من سأل بالله عز وجل» حديث (2567) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَعَاذَ بِالله فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِالله فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ؛ فَإِنْ لَـمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ»، وذكره العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/170) وقال: «أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح»، وابن مفلح في «الآداب الشرعية» (1/405) وقال: «إسناده صحيح»، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (1672).
(7) «سلسلة الهدى والنور» شريط (285).
(8) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس» باب «حسن القضاء» حديث (2393)، ومسلم في كتاب «المساقاة» باب «من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه وخيركم» حديث (1601)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

تاريخ النشر : 14 أكتوبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   01 البيع

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend