بعد مطالعتهم لموقع مؤسسة أثار بعض أفراد الجالية تساؤلًا متعلقًا بأحد المبادئ الحاكمة للصناديق الاستثمارية لهذه المؤسسة. وفقًا لما جاء في هذه المبادئ؛ فإن المؤسسة لا تستثمر الأموال في شركات تمنح أكثر من 5% من الفائدة الربوية (النسبة المعتبرة في الريع).
والسؤال الآن: هل هذا يعني أنهم إذا حَصَّلوا نسبة 4. 9% من عائداتهم الناتجة من الربا يكون حلالًا؟ هل من توضيح لهذا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الشركات كما لا يخفى ثلاثة أقسام: قسم تمحَّض للعمل في الحلال نشاطًا وتعاملًا، وهذا لاشك في حل التعامل معه، وقسم تمحَّض للعمل في المحرمات سواء في نشاطه أو في معاملاته ووسائل تثميره لأمواله، وهذا لا شك في حرمة التعامل معه، وأما القسم الثالث وهو الشركات المختلطة التي يكون أصل نشاطها مشروعًا، ولكنها تتعامل أحيانًا في المحرمات كالاقتراض أو الإيداع بفوائد.
من النوازل التي اختلفت فيها أقوال أهل العلم من المعاصرين:
• فمنهم من ذهب إلى حرمة التعامل معها ابتداء؛ فإن قليل الربا وكثيره حرام، فلا يجوز شراء أسهم في شركات تتعامل بالربا، ولو كان نشاطها الأصلي مباحًا، وبهذا صدر قرار المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي والمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي واللجنة الدائمة للإفتاء ببلاد الحرمين، والهيئات الشرعية في عدد من البنوك الإسلامية في الكويت ودبي والسودان وغيرها.
ففي قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة. اهـ.
وفي قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة:
1. لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالمًا بذلك.
2. إذا اشترى شخص وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا، ثم علم فالواجب عليه الخروج منها. اهـ.
وفي توجيه ذلك جاء في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي: والتحريم في ذلك واضح لعموم الأدلة من الكتاب والسنَّة في تحريم الربا، ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المشتري بذلك، يعني اشتراك المشتري نفسه في التعامل بالربا؛ لأن السهم يمثل جزءًا شائعًا من رأس مال الشركة، والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة، فكل مال تُقرضه الشركة بفائدة، أو تقتَرِضُه بفائدة فللمساهم نصيب منه؛ لأن الذين يباشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابةً عنه وبتوكيل منه، والتوكيل بعمل المحرم لا يجوز.
وقد وُجِّه سؤالٌ للجنة الدائمة للإفتاء وكانت برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله ونصه: هل المساهمة بالشركات الوطنية مثل كذا، وكذا. جميع هذه الشركات تؤمِّنُ عند البنوك ما تحصل عليه من المساهمين، وتأخذ عليها فوائد بنسبة تتراوح من 8٪ إلى 6٪ سنويًّا، فهل المساهمة بهذه الشركات حرامٌ؟ علمًا بأنها لم تؤسَّس للربا. أفيدونا؟
فأجابت اللجنة بأنه: إذا كان الواقع كما ذكرت، فإيداع أموال هذه الشركات في البنوك بفائدة حرام، والمساهمة فيها حرام، ولو لم تؤسس هذه الشركات للتعامل بالربا؛ لأن الاعتبار بالواقع لا بالتأسيس.
• ومنهم من أجاز التعامل مع هذه الشركات المختلطة، شريطة أن يكون النشاط الأصلي للشركة مشروعًا، وألا يتجاوز رأس المال المقترض بالربا أو المودع بالربا نسبة (25%) من إجمالي موجودات الشركة، وقد بلغت به هيئة المعايير الشرعية بالبحرين (30%)؛ علمًا بأن الاقتراض بالربا حرام قل أو كثر، والإثم على صُنَّاع القرار في الشركة ممن أذِنَ أو باشَر تلك المعاملة المحرمة، ويرجى العفو عن صغار المستثمرين ممن ليسوا في موضع اتخاذ القرار، وأن تكون عوائد المعاملات المحرمة يسيرة بالنسبة لإجمالي نشاط الشركة وعوائد استثماراتها، مع وجوب التَّخلُّص من نسبة الإيراد الناتج من عنصر محرم، التي يتم الحصول عليها ضمن الأرباح الناتجة، وألا يستفيد منها بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء أكان هذا الإيراد ناتجًا عن الاستثمار بفائدة ربوية أم عن ممارسة نشاط محرم.
والضابط في تحديد اليسير هو العُرف، وقد استقرَّ العُرف التجاري في الأسواق المالية على أن أي نشاطٍ محرمٍ للشركة لا يتجاوز 5% من إجمالي نشاط الشركة لا يُعَدُّ مقصودًا للشركة بل هو من الأنشطة التابعة، ومبنى هذا التحديد للنِّسَب في ذلك كله على الاجتهاد، وهو قابل لإعادة النظر حسب الاقتضاء، وعلى هذا هيئة المعايير الشرعية بالبحرين، والهيئة الشرعية لشركة الراجحي للاستثمار، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني، والشيخ ابن منيع وآخرون.
وأما ما نُسب من الإفتاء بهذا الترخص إلى المفتي الأسبق لبلاد الحرمين الشيخ محمد بن إبراهيم؛ فإن فتواه كانت نصًّا في مشروعية شركات المساهمة وإن كان رأس مالها خليطًا من عرض ونقود وديون، أو لم يتحقق العلم بتفاصيلها عند المساهمة فيها، ولكن لم تتضمن الفتوى إشارة إلى الشركات التي تتعامل صراحة في فوائض أموالها بالربا، أو تستثمر جزءًا من أموالها في أعمال محرمة.
ومن أدلتهم على ذلك:
– قاعدة: تنزيل الحاجات العامة منزلة الضرورات الخاصة. وقالوا: إن حاجة الناس تدعو للمساهمة بهذه الشركات.
– قاعدة: يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا، وقالوا: إن الربا في هذه الشركات تابع غير مقصود فيُعفى عنه.
– قاعدة: أن العبرة بالأكثر، وأن الحكم للأغلب، وأن اليسير مغتفَرٌ. وبما أن الأغلب هنا المباح فيحكم بالجواز، أي ما دام الربا في هذه الشركات يسيرا جدًّا فيكون مغمورًا في المال المباح الكثير.
ويوجه الشيخ ابن منيع القول بالترخص في هذه الأسهم المختلطة فيقول: فلو قُلْنا بمنْع الأسهم أو شرائها، لأدَّى ذلك إلى إيقاع أفراد المجتمع في حَرَج وضِيق حينما يجدون أنفسَهم عاجزين عن استثمار ما بأيديهم مِن مدَّخرات، كما أنَّ الدولة قد تكون في وضْع مُلجئٍ إلى التقدُّم للبنوك الربوية؛ لتمويل مشروعاتها العامَّة، حينما تحجب عنها ثروةٌ شعبية، يكون مصيرها بعدَ الحجب والحرمان الجُمود.
ولكن مما يشوش على هذا القول ما ذكرته هيئةُ المعايير الشرعية في صدر حديثها عن ضوابط الترخُّص في الاستثمار في هذه الشركات: ألا تستَحِلَّ الشركة ذلك التَّعامل المحرم أو تنُصَّ عليه في نظامها الأساسي. فذكرت في ذلك ما نصه: 3/ 4/ 1: ألا تنُصَّ الشركة في نظامها الأساسي أن من أهدافها التعامل بالربا أو التعامل بالمحرمات كالخنزير ونحوه.
وكذلك ما ذكرته الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار، حيث نصَّت كذلك على نفس القيد بقولها: رابعًا: لا يجوز الاشتراك في تأسيس الشركات التي ينُصُّ نظامها على تعامل محرم في أنشطتها أو أغراضها.
ولعل كل الشركات في المجتمعات الرأسمالية تنص على استثمار فوائض أموالها في الإيداعات الربوية، ومرد القول في تدقيق ذلك إلى المتخصصين.
هذان هما الاجتهادان في هذه النازلة، ولسنا في مقام التناول التفصيلي لهذين الاجتهادين، والترجيح بينهما، ولكن المحكم الذي لا شكَّ فيه أن من اختار طريق الورع وتجنب التعامل مع هذه الشركات فقد اختار طريق الاحتياط والاستبراء للدين وللعرض، وكان ذلك أنقى لكسبِه وأرضى لربه، أما من اختار تقليدَ الطريق الآخر فقد قلَّد اجتهادًا قائمًا، وإن كان على خلاف القرارات المجمعية وما عليه جماهير أهل الفتوى، لكنه تبنَّته- كما سبق- هيئة المعايير الشرعية بالبحرين، وبعض أهل الفتوى، ولهم في ذلك تأوُّل واجتهاد، ونوع تعلق بالأدلة، قد لا يكون هذا هو الاجتهاد الراجح عندنا، ولكننا لا نُنكر على من فعله في الغرب خاصة؛ لعموم البلوى، ومسيس الحاجة، وندرة البدائل المشروعة أو انعدامها، هذا هو الذي ظهر لنا في هذه المسألة.
وقد رأينا فتوى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله لعلها تتفق مع ما ذهبنا إليه في هذه النازلة نسوقها بنصِّها إتماما للفائدة:
فقد سئل الشيخ رحمه الله: هل يجوز المساهمة في الشركات؟ فأجاب:
نفيدكم بأن ما يطرح للمساهمة على قسمين:
القسم الأول: أن تكون المساهمة في شركات ربوية أُنشئت أصلًا للربا أخذًا وإعطاء كالبنوك، فهذه لا تجوز المساهمة فيها، والمساهم فيها معرض نفسه لعقوبة الله تعالى، وقد جعل اللهُ للربا عقوبات لم تأت لغيره من المعاصي التي دون الشرك؛ فقد قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } [البقرة: 278، 279]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: «هُمْ سَوَاءٌ»(1).
القسم الثاني: أن تكون المساهمات في شركات لم تنشأ للربا أصلًا، ولكن ربما يدخل في بعض معاملاتها، فهذه الأصل فيها جواز المساهمة، لكن إذا كان قد غلب على الظن أن في بعض معاملاتها ربًا فإن الورع هجرها وترك المساهمة فيها؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْـحَرَامِ»(2).
فإذا كان قد تورَّط فيها، أو أبى أن يسلك طريق الورع فساهم؛ فإنه إذا أخذ الأرباح وعلم مقدار الربا وجب عليه التخلص منه بصرفه في أعمال خيرية من دفع حاجة فقير أو غير ذلك، ولا ينوي بذلك التقرب إلى الله بالصدقة بها؛ لأن الله طيِّب لا يقبل إلا طيبًا(3)، ولأن ذلك لا يبرئ ذمته من إثمها، ولكن ينوي بذلك التخلُّص منها ليَسلم من إثمها؛ لأنه لا سبيل له للتخلص منها إلا بذلك، وإن لم يعلم مقدار الربا فإنه يتخلص منه بصرف نصف الربح فيما ذكرنا. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________
(1) أخرجه مسلم في كتاب «المساقاة» باب «لعن آكل الربا ومؤكله» حديث (1598) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الإيمان» باب «فضل من استبرأ لدينه» حديث (52) ، ومسلم في كتاب «المساقاة» باب «أخذ الحلال وترك الشبهات» حديث (1599) ، من حديث النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رضي الله عنهما.
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الزكاة» باب «قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها» حديث (1015) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.