أنا أعطيت الخادمات هدايا لوجه الله، بعد فترة لاحظت أن خادمة منهن تطاولت بالكلام علي وأسلوبها وقح وصوتها عال ولا تنفذ لي طلبًا، مع أنها ليست خادمتي الخاصة، فغضبت منها بشدة وقلت لخادمتي: «روحي خذي هديتي اللي أعطيتها لها». فلما ذهبت جاءت بهديتين وتقول: حتى صديقة هذه الخادمة ردت الهدية وتقول: لا أريدها.
أنا أعلم أن عليَّ ذنبًا ولكن يا شيخ كيف أهدي لناس لا تستحق؟ الناس لم تعُد كما كانت مع أني أحب الطيِّب، وضميري أنبني وخفتُ من عذاب ربي.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فما فعلتَه لا يحلُّ لك ديانةً، ولا يجمل بكَ مروءةً ورجولةً؛ فقد روى البخاري عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ؛ الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ»(1).
وورَد برواية عند مسلم بلفظ: «إِنَّمَا مَثَلُ الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَأْكُلُ قَيْئَهُ»(2).
وكفى بهذا التصوير بشاعةً وشناعةً!
ومن ناحية أخرى فإن الهدية للخادمة الضعيفة فيها شوبُ الصَّدَقة، وقد قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ [البقرة: 264].
بل إن ذلك في مسألتك كذلك لقولك في رسالتك: «أعطيتُ الخادمات هدايا لوجه الله». ولقد ورد في «مصنف عبد الرزاق»: أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان قائلًا: إني حُدِّثتُ أنك اشتريت خادمًا، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ مِنَ الله وَهُوَ مِنْهُ مَا لَـمْ يُخدَمْ، فَإِذَا خُدِمَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْـحِسَابُ»، وإن أم الدرداء سألتني خادمًا، وأنا يومئذ مُوسر، فكرهت ذلك لها، خشيتُ من الحساب(3).
وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ»(4). وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»(5).
فأصلح ما أفسدتَ، واسترضِ خادمتك، ورُدَّ إليها هديَّتَها، وزِدْ عليها من عندك، وسَلِ الله أن يرزقك حُسنَ الخُلُقِ؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْـمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْـخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْـخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ»(6).
فالخلق الحسن كما قال الغزالي: «أفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطرُ الدين، وهو ثمرةُ مجاهَدةِ الـمُتَّقين ورياضة المتعبدين، والأخلاق السيئة هي السُّموم القاتلة، والهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة»(7).
وإن أعياكَ الأمرُ مع خادمتك فاستبدل أخرى بها تستطيع أن تُباشر في مخالطتك لها هذه العبودية، فإن ذلك خيرٌ لكَ من إمساكها مع سُوء خُلُقِها الذي يحملك على مقابلته بسوء من جانبك. والله تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الهبة وفضلها والتحريض عليها» باب «لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته» حديث (2621).
(2) أخرجه مسلم في كتاب «الهبات» باب «تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض» حديث (1622) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(3) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (11/97) حديث (20029).
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الإيمان» باب «المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك» حديث (30)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه» حديث (1661)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(5) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/153) حديث (21392)، والترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في معاشرة الناس» حديث (1987) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْـحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
(6) أخرجه الترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في حسن الخلق» حديث (2003)، وذكره الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2003).
(7) «إحياء علوم الدين» (3/49).