ما تقدمه البنوك من مزايا لأصحاب الحسابات الجارية

فضيلة الدكتور، هل يعتبر الحساب الجاري قرضًا من المودِع للبنك؟
ما حكم ما تُقدِّمه بعض البنوك الإسلامية وغير الإسلامية من مزايا لأصحاب الحسابات الجارية لاجتذاب أموالهم مثل:
1- استخدام قاعات الـVIP في المطار عند السفر.
2- منح نقاط تستبدل بتذاكر طيران مجانية.
3- رسوم مخفضة على الخدمات بنكية.
5- منح خصومات في المحال التجارية.
4- منح مكافآت مالية كنسبة من المبلغ المودَع في الحساب الجاري.

الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الحسابات الجارية هي المبالغ التي يُودعها أصحابها في البنوك، شريطةَ أن تُرَدَّ بمجرد الطلب، ودون توقف على أي إخطار سابقٍ من أيِّ نوع.
والبنك لا يحتفظ بهذه الودائع كما تَسلَّمها، بل يخلطها بأمواله، ويجري عليه ما شاء من التصرفات تداولًا وإقراضًا، ويلتزم برَدِّ بدلها عند الاقتضاء.
والحسابات الجارية ليس هدفُها الاستثمارَ، وإنما حفظُ هذه الأموال وصيانتها من السرقة أو الهلاك، وتسهيل التعامل التجاري والمعاملات المصرفية الأخرى التي تقدمها هذه المصارف لعملائها.
وتُعَدُّ الحسابات الجارية من أهم موارد البنوك، فهي تستثمرها في الإقراض، وتستقل بفوائدها دون المودِعين، فضلًا عن إقدار المصرف على زيادة قُدرته الائتمانية فيما يُسمى بخلق النقود، واستفادة المصرف من بيع الخدمات المصرفية الأخرى لعملائِه الذين يغلب أن يتعاملوا مع نفس المصرف الذي فتحوا لديه حساباتهم الجارية في شراء هذه الخدمات، كما يستفيد العملاء من بعض المزايا، ومن بينها ما جاء في السؤال.
والذي عليه جمهور الفقهاء في واقعنا المعاصر في التكييف الفقهي لهذه الودائع التي تُودع في الحسابات الجارية اعتبارُها قروضًا؛ لأن يدَ البنك عليها يدُ ضمان، وهو ملتزم بردها عند الطلب، وهذه حقيقة القروض، وهو الذي نصَّ عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي؛ حيث نصَّ على ما يلي:
أولًا: الودائع تحتَ الطلب (الحسابات الجارية)، سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي؛ حيث إنَّ المصرفَ المستلم لهذه الودائع يدَه يدُ ضمان لها وهو ملزم شرعًا بالرد عند الطلب، ولا يؤثر على حكم القرض كون البنك (المقترض) مليئًا.
ومن الفقهاء المعاصرين من اعتبرها ودائعَ بالمعنى الفقهي، مع الإذن باستعمالها فقط من قِبَل المصرف، وبهذا أخذ بنكُ دبي الإسلامي، وهو تخريج يَرِد عليه ما استقر عند الفقهاء أن الودائع المأذون في استعمالها قروضٌ، وأن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.
ومن القانونيين من كيَّفها على أنها وديعةٌ شاذةٌ أو ناقصة، أي: وديعة مع الإذن بالاستعمال، أو أنها عقد ذو طبيعة خاصة، أو أنها ليست من العقود المسماة.
وبناء على ما سبق من التخريج الذي عليه الجمهور فينبغي الحذرُ عند التعامل مع المزايا المصرفية التي تُوفِّرها الحسابات الجارية؛ لما تمهد من أن كل قرض جرَّ نفعًا فهو محرَّمٌ، على تفصيل في هذه القاعدة، ولنتأمل في بعض هذه المنافع التي تعودُ على المودع صاحب الحساب الجاري، ونرى مدى مشروعيتها:
أولًا: الانتفاع بحفظ المال وضمانه، وهو الغرض الأساسي من تعامل غالب الناس مع المصارف عن طريق الحسابات الجارية، ولا حرج في ذلك، فإن الضمان أثر من الآثار المترتبة على عقد القرض، سواء أقصده المقرِض أم لم يقصده، فلا حرج في إقراض الشخص ماله لآخر بقصد الحفظ، فقد كان الناس يأتون لإيداع أموالهم عند الزُّبير، فكان لا يقبلها وديعةً، وإنما يشترط أن تكون قرضًا مضمونًا، ويعلل ذلك بأنه يخشى عليه الضيعة، فقد ثبت في الصحيح من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: وإنما كان دينه- أي الزبير رضي الله تعالى عنه- الذي عليه أنَّ الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه؛ فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة(1).
قال ابن حجر- رحمه الله تعالى: «قوله: (لا، ولكنه سلف) أي ما كان يَقبض من أحد وديعةً إلا إن رضي صاحبُها أن يجعلها في ذمته، وكان غرضُه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع؛ فيُظن به التقصير في حفظِه؛ فرأى أن يجعله مضمونًا فيكون أوثق لصاحب المال وأبقى لمروءته. زاد ابن بطال: وليطيب له ربح ذلك المال»(2).
ولا حرج على أوصياء اليتامى أن يُقرضوا أموالهم، ويتسلموها في بلد آخر ليربحوا خطر الطريق، قال ابن قدامة- رحمه الله تعالى: «والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضررٍ بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها»(3).
ثانيًا: الانتفاعُ بتنظيم الحسابات وضبطها: وهي منفعة آليةٌ تأتي تبعًا لإجراءات المصرف في ضبط حساباته وتنظيمها وتوثيقها، فالذي يظهر أنه لا مانع من الانتفاع بهذه الخدمة بدون مقابل.
ثالثًا: منح مكافآت مالية كنِسبة من المبلغ المودَع في الحساب الجاري. وهذه لا ينبغي أن يختلف القول في تحريمها، فهي من الربا الجلي، فلا يجوز الانتفاعُ بها بحال من الأحوال، كما لا يحسن تركُها للمصرف، بل تؤخذ ويتخلص منها بتوجيهها إلى المصارف العامة، على سبيل التخلص وليس على سبيل التصدُّق، ويرجى أن يثاب على ذلك ثواب العفة عن الحرام.
رابعًا: أما بقية الخدمات المذكورة في السؤال فالذي يظهر قياسها على الانتفاع بالحفظ والضمان من حيث المشروعية، فهي مصلحة للطرفين، فالخصومات التجارية والنقاط التي تمنح عند شراء تذاكر شركات الطيران ويلحق بذلك استخدام قاعات الـVIP في المطار عند السفر، كل ذلك نتيجة لما حصل عليه البنك من أرباح نتيجة لاستخدام بطاقاته الائتمانية، فهو يشارك عميله فيها، ويمنحه نسبة منها.
وتبقى الشبهة في تنازل البنك عن رسوم الخدمة المصرفية الشهرية نتيجة لاستبقاء مبلغ معين في الحساب، فيبدو أن الشبهة في هذه أظهر، وأن التورُّع عنها أولى وأحوط.
هذا هو ما بدا لنا في هذه المسألة، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمنا أو من الشيطان، ونحن راجعون عنه في حياتنا وبعد مماتنا، ولا نستجيز أن يُنسب إلينا. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «فرض الخمس» باب «بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًا» حديث (3129).
(2) «فتح الباري» (6/230).
(3) «المغني» (4/211).

تاريخ النشر : 20 يوليو, 2024
التصنيفات الموضوعية:   02 الربا والصرف

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend