شيخنا الفاضل أقسمت بالله في عدة مواقف وهي كالتالي:
الموقف الأول: حدث هذا الموقف في النيابة فقد كان مدير المعهد الذي أعمل فيه متهمًا بقضية تزوير؛ أي أنه قام بالتَّوقيع على أوراق تخص صاحب المؤسسة بدون علمه، وعندما تم تحويل المدير للنيابة كنت من بين الشهود على الواقعة، وقبل الإدلاء بشهادتي طلب مني وكيلُ النيابة أن أقسم بالله أن أقول الحقيقة ولا أقول غيرها، وفعلًا أقسمت وشهدت بما علمت، لكن سألني وكيل النيابة هل قمْتَ بالتَّوقيع على أي شهادات للمعهد؟ فقلت له: لا.
علمًا بأني سبق ووقعت على شهادات بعلم المدير؛ حيث إنه كان خارج البلاد وكنت الوحيد الموجود بالمعهد وزوجة المدير قالت لي حينها: وقِّعِ الشهادات حتى لا تقِفَ مصالح الطلبة، وسبب إنكاري لتوقيع الشهادات خوفي أن يتمَّ توجيه اتهام لي في قضية أنا بعيد عنها.
الموقف الثَّاني: كنا في طريقنا لإحضار شَبْكة أختي من محلات الذَّهب، فقالت أختي شيئًا أغضبني فأقسمت بالله أني لن أذهب معهم لمحل الذهب. فوالدي غضب مني خصوصًا أني ابنه الكبير، وطلب مني الذهابَ معهم، وفعلًا ذهبت معهم، وقلت في نفسي: أصوم ثلاثة أيام جاهلًا بأن الصَّوم يأتي عند تعذُّر إطعام عشرة مساكين.
الموقف الثالث: وهذا الموقف كنْتُ في قمة انفعالي وغضبٍ شديدٍ، وحدث تقريبًا من عشرة سنين عندما كنت طالبًا في الجامعة، فقد كنت دائم الخلاف مع والدي لاختلاف وجهات النَّظَر بيننا، فقد كان شديدًا في تعامله معي، وفي إحدى المشاكل قلت له: والله لن أسكن معك، ولن أبني فوق البيت. فهو كان يتمنى أن أبني شقة فوق بيتنا، ولكني بعدها بنيت شقة فوق البيت.
الموقف الرابع: أجرت زوجتي مجموعة من التحاليل الطبية، وكنت أتصل بالمعمل للاستفسار عن نتيجة التحاليل فأخبرتني الممرِّضة بأن نتيجة التحليل فيها ارتفاع في هرمون اللبن، فبدَّلت ملابسي لأذهب لأحضر التحاليل، فزوجتي خافت أن يكون التحليل أظهر شيئًا، فسألتني: هل قالت لك الممرضة حاجة عن التحليل؟ هل هناك حاجة؟ فقلت لها: والله ليس هناك شيء واطمئني.
وبعد عرض التحليل على الطبيبة قالت لي بأن الزِّيادة الموجودة في الهرمون لا تعتبر زيادةً مقلِقَة وأن نسبة الهرمون تقريبًا طبيعية.
الموقف الخامس: كان في يدي طبق من الحلويات وأنا في بيتنا وخرجت بالطبق لأجلس أمام البيت وأنا داخل البيت سمعت صوت ابن عمي فتوقعت أنه سيطلب مني الحلويات التي في يدي، وفعلًا عندما خرجت ورأى الطبق قال لي: يا عم هاتِهِ. وأخذ فعلًا الطبق من يدي. فقلت له: والله أنا أحضرته لأجلك.
الموقف السادس: كان عندنا تفتيشٌ في المعهد الذي أعمل به، وهناك غرفة المخزن أرادوا أن يدخلوها، فقلت لهم: إنها مغلقة. فقال لي: طيب أحضر المفتاح. قلت له: المفتاح مع المدير، وهو غير موجود. فقال لي: «إزاي مع المدير؟!». قلت له: آه والله.
هذه هي المواقف التي حلفت بالله فيها أريد لحضرتك توضيح: هل كلُّها تعتبر يمينًا تستحق الكفارة أم أن فيها أيمان لغو؟ وما هي كفارة اليمين؟ يعني لو أحببت أن أطعم عشرة مساكين، ما هي مواصفات الوجبة حسَبَ الأكلات المصرية؟ يعني مثلًا أرز ولحمة أو أرز وفراخ أو مكرونة وفراخ؟ يعني أرجو توضيح ذلك لأن كتب الفقه تتحدث بمكيال الصاع ونحن نتعامل بالكيلو.
وهل يمكن تقديمُ الوجبات وتوصيلها لبيت المسكين بدون طبخ؟ يعني أرسل أرزًا غير مطبوخ أو لحمًا أو فراخًا دون طبخ أم يجب طبخها؟ أيضًا: هل يجوز أن أدفع الكفارَةَ أموالًا؟ وكم تبلغ كفارة اليمين الواحدة بالجنيه المصري؟
أيضًا شيخنا، بالنِّسْبة لحالي المادي أنا أعمل في إحدى الدول العربية وراتبي ليس كبيرًا، فأنا أعمل في القطاع الخاص ودخلي لا يتجاوز بالجنيه المصري ألفين وستمائة جنيه، وليس هناك أي دخل إضافي، وقريبًا سأعود لمصر، وحسبت المبلغ الذي بإذن الله سيكون معي في مصر وقت نزولي وجدته سبعة آلاف جنيه فقط، وليس هناك عمل لي في مصر، أي أنني سأبحث عن عمل، ويمكن أقعد فترة من دون عمل حتى أجد عملًا، وليس معي سوى هذا المبلغِ الذي ذكرته لحضرتك بالإضافة لذهب زوجتي.
علمًا بأن زوجتي تتابع مع طبيبة أمراض نساء وتأخذ أدوية كي تأخر الإنجاب، يعني المصاريف كثيرة كما ترى، فهل يجوز لي الصِّيام أم أنني في ضوء هذه الظُّروف التي أوضحتها لحضرتك لا يحق لي الصِّيام وواجب علي إطعام المساكين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد أشرْتَ في سؤالك إلى ستة أيمان: منهما يمينان من جنس اليمين الغَمُوس، وهما الأوَّل والخامس، واليمين الغموس وهي المعقودة على أمر في الماضي أو الحال كاذبة يتعمد صاحبُها ذلك، فالحالف في هذه اليمين يحلف وهو متعمِّدٌ للكذب، وهي كبيرة من الكبائر، فقد عدَّها النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر حيث قال: «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِالله، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ»(1).
وسُمِّيت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو تغمسه في النار، وهذه اليمين لا تُكَفَّر عند جمهور العلماء، وإنما يلزم صاحبها التَّوْبة فقط.
أخرج الحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نعد الذَّنْب الذي لا كفارة له: اليمين الغموس(2).
فتلزمه التَّوْبة إلى الله عز وجل ويتقرب إليه بما قدر عليه من عتق وصدقة وصوم.
وذهب الشَّافعية(3) إلى أنها تكفر، ولعل الأحوطَ فيها للمرء أن يجمعَ بين التَّوْبة منها والكفارة.
ومنهما يمين يعتبر لغوًا، وهو الرابع، فإن اليمين اللَّغو هو ما جرى على اللسان بغير قصد إلى الحلف، فهو قول أحدِكم: لا والله، بلى والله. فهذا هو الذي ظهر لي من عبارتك في هذا اليمين، فإن أكدْتَ لي ما أقول فيه كان لغوًا لا كفارة فيه.
أما اليمين السادس فإن كان جرى على لسانك عفوًا من غير قصد إلى الحلف كان لغوًا، وأما إذا كنت منتبهًا وقاصدًا إلى الحلف كان غموسًا، وأنت أعلم بحالك والمرء أمين على دينه!
ومنهما يمين قد تعتبر لغوًا، وهو اليمين الثالثة إذا كنت قد بلغْتَ في غضبك مبلغ الإغلاق، وهو شدة الغضب التي تبلغ بصاحبها مبلغ فقدان الشعور والتمييز(4)، كما لو أقسم في حال شدة الغضب، وعند المسابَّة، والمخاصمة الشَّديدة والمضاربة ونحو ذلك حتى فقد شعوره؛ لأنه في هذه الحال أشبه بالمعتوهين والمجنونين، فإن كنت قد بلغت هذا المبلغ فهذه بجذورها يمين لغو لا كفارة فيها، وتبقى اليمين الثَّانية وهو يمين منعقدة فيها الكفارة بلا نزاع.
ومقدار الكفارة نصف صاع من قُوت البلد من تمر أو بُرٍّ أو أرز أو غيرهما، ومقدارُهُ كيلو ونصف تقريبًا من الأرز، وقيل يجزئ مُدٌّ من طعام، والمد يبلغ ثلاثة أرباع الكيلو تقريبًا، إن أخرجته طعامًا كأرز أو تمر ونحوه.
ويحسن أن تجعل معه شيئًا من الإدام، وإن أرسلت وجبات جاهزة إلى الفقراء والمساكين من أوسط ما تُطعم منه أهلك فذلك خير.
أما دفع ثمن الطعام بدلًا من الطَّعام فإن الذي عليه جمهور العلماء(5) أنه لا تجزئ القيمة في الكفارة.
قال ابن قُدَامة في «المغني»: «لا يُجْزِئُ في الكفارة إِخراج قيمة الطعام ولا الكسوة؛ لأن اللهَ ذكر الطعام فلا يحصل التكفير بغيره، ولأن اللهَ خَيَّرَ بين الثَّلاثة أشياء ولو جاز دفع القيمة لم يكن التَخْيِيرُ منحصرًا في هذه الثلاث»(6).
ولا أرى لك العدول عن الإطعام إلى الصِّيام، فحالك يستوعِبُ أن تخرج الكفارة طعامًا لاسيما بعد أن أصبحتَ مطالبًا بثلاث كفارات فقط؛ فلا تخْشَ من ذي العرش إقلالًا(7).
ونوصيك بأن تُمسك نفسك عند الغضب، وألا تكثر من الحلف، وأن تحافظ على أيمانك إذا حلفت، إلا إذا حلفت على ترك بِرٍّ أو على فعل معصية فهنا يلزمك أن تكفر عن يمينك، وأن تأتي بالذي هو خير؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»(8)؛ ولقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «وَالله إِنِّي إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»(9). واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (4/329) حديث (7809)، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه فقد اتفقا على سند قول الصحابي».
(2) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (4/329) حديث (7809)، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه فقد اتفقا على سند قول الصحابي».
(3) جاء في «مغني المحتاج» من كتب الشافعية (6/188): «(وتصح) اليمين (على ماض) كوالله ما فعلت كذا أو فعلته بالإجماع، لقوله تعالى: ﴿يحلفون بالله ما قالوا﴾ ثم إن كان عامدا فهي اليمين الغموس، سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وهي من الكبائر، وتتعلق بها الكفارة خلافا للأئمة الثلاثة، لقوله تعالى: ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ وهو يعم الماضي والمستقبل، وتعلق الإثم لا يمنع الكفارة كما أن الظهار منكر من القول وزور وتتعلق به الكفارة».
(4) ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في «مسنده» (6/276) حديث (26403)، وأبو داود في كتاب «الطلاق» باب «في الطلاق على غلط» حديث (2193)، وابن ماجه في كتاب «الطلاق» باب «طلاق المكره والناسي» حديث (2046)، والحاكم في «مستدركه» (2/216) حديث (2802). من حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ»، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وحسنه الألباني في «إرواء الغليل» حديث (2047).
(5) جاء في «بدائع الصنائع» من كتب الحنفية (5/102): «ولا يجوز دفع القيم والأبدال كما في الزكاة، وعندنا يجوز (وجه) قوله إن الله – تعالى – أمر بالإطعام بقوله جل شأنه {فكفارته إطعام عشرة مساكين}، فالقول بجواز أداء القيمة يكون تغييرا لحكم النص وهذا لا يجوز».
وجاء في «مواهب الجليل» من كتب المالكية (3/270-272): «ص (إطعام عشرة مساكين لكل مد) ش: بدأ بالإطعام لموافقة الكتاب العزيز ولم يبين ما الأفضل من الثلاثة كما فعل في الصيام، وذكر القرطبي في تفسير قوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية ما نصه: ذكر الله سبحانه الخصال الثلاثة فخير فيها وعقب عند عدمها بالصوم، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم، ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير، قال ابن العربي والذي عندي أنها تكون بحسب الحال، فإن علمت محتاجا فالطعام أفضل؛ لأنك إذا أعتقت لم ترفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم، وكذلك الكسوة تليه ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم والمهم، انتهى. (فروع الأول) قال ابن عرفة قال اللخمي زوج المرأة وولدها الفقيران كأجنبي والطعام من الحب المقتات غالبا، انتهى. (الثاني) لا تجزي القيمة عن الإطعام والكسوة».
وجاء في «كشاف القناع» من كتب الحنابلة (5/386-388): « (والمخرج في الكفارة ما يجزئ في الفطرة)… (ولا يجزئ إخراج القيمة) لأن الواجب هو الإطعام وإعطاء القيمة ليس بإطعام».
(6)«المغني» (10/6) باختصار.
(7) ففي الحديث الذي أخرجه الطبراني في «الأوسط» (3/86) حديث (2572)، والبزار في «مسنده» (5/348) حديث (1978) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلالٍ فوجد عنده صبرًا من تمرٍ، فقال: «ما هذا يا بلال؟» فقال: تمر ادخرته لك. فقال: «ويحَك يا بلال أما تخاف أن يكون له بخارٌ في النار؟! أنفق يا بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا». وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/241) وقال: «رواه البزار والطبراني وإسنادهما حسن».
(8) أخرجه مسلم في كتاب «الأيمان» باب «ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه» حديث (1651) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه .
(9) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «كفارات الأيمان» باب «الاستثناء في الأيمان» حديث (6718)، ومسلم في كتاب «الأيمان» باب «ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه» حديث (1649)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه .