زواج الابن بغير رضا أبيه

الحمد لله نحن عائلة متمسكين بالإسلام نعيش في كندا، ابني متدين ملتحٍ يتقي الله وعلى خير كثير ولله الحمد، يبحث عن الزوجة الصالحة التي لا تختلط بالرجال، على استعداد للقرار في البيت ويكون همها تربيةَ أسرةٍ صالحة، وتكون تجيد اللغة العربية، وتكون طالبة علم للقرآن وغيره من العلوم الشرعية.
رأى بنات كثيرات طيبات على خُلق ودين ولكن ينقصهن ما يبحث عنه من توقعات في الزوجة الصالحة، بعد البحث الطويل وسؤال أهل الخير توصلنا إلى بنت أحسبها على خير عظيم وأدب وطاعة وحبٍّ لكتاب الله ولا أزكي على الله أحدا. وابني مستريح لها جدًّا وهي كذلك، ويريد الزواج منها ولكن والده غيرُ راض ولا يريد الحوار والنقاش مع ابننا ولا مع أي أحدٍ في هذا الموضوع، ولا يريد حتى ذكر أسباب اعتراضه.
هو لا يعرف البنت مطلقًا ولا يريد ذلك، ونحن نظن أن سبب الاعتراض أن البنت من أسرة وقع فيها الطلاق بين أبوها وأمها، وربما لأن الحسب والنسب غير متلائم مع أسرتنا. والله أعلم.
وأم البنت أصلها شيعية ولكنها على جهلٍ شديد بالشيعة- الحمد لله- فهي لا تطبق منها أي شيء. لكن البنت ملتزمة جدًّا بالسنة ومنهج السلف الصالح.
ابني حريصٌ جدًّا على البر بي وبأبيه ويحاول مرارًا أن يُناقش والدَه لمعرفة وجهة نظره، ولكن الأب ينفر بشدة في فتح الموضوع.
ابني يريد الزواج بهذه الفتاة ذات المواصفات التي بحث عنها لبضعة أعوام، وأنا أوافق ابني لأني أعلم صعوبةَ وجود مواصفات الزوجة التي يبحث عنها بالأخص في هذا العصر وفي كندا، والفتن من حولنا كثيرة، وهو دائم الصيام ليُعين نفسه على الصبر. فهل يقدم على الزواج بدون رضا الأب وحضوره؟ هل هو آثم إن فعل هذا؟ جزاك الله خيرًا.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن موافقة الأب على زواج ابنِه ليس من شروط صحَّة عقد النكاح، وليس للأب أن يرغم ابنه على الزواج بمن لا يريدها، وطاعته في ذلك ليست من البر الواجب، جاء في الآداب الشرعية: وقال له رجل – أي: للإمام أحمد -: لي جارية، وأمي تسألني أن أبيعها، قال: تتخوف أن تتبعها نفسك؟ قال: نعم، قال: لا تبعها، قال: إنها تقول لا أرضى عنك أو تبيعها، قال: إن خفت على نفسك، فليس لها ذلك.
قال الشيخ تقي الدين: لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجبًا، أو لأن عليه في ذلك ضررًا، ومفهوم كلامه أنه إذا لم يخف على نفسه يطيعها في ترك التزوج، وفي بيع الأمة؛ لأن الفعل حينئذ لا ضرر عليه فيه، لا دينًا، ولا دنيا. اهـ.
. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (32/30): «ليس لأحدٍ من الأبوين أن يُلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقًّا. وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه- كان النكاح كذلك وأولى؛ فإن أَكْلَ المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طولٍ يؤذي صاحبه، ولا يمكن فراقه»(1). اهـ.
وليس له أن يُرغمه على طلاق زوجته الصالحة بدون أسباب شرعية تُسوِّغُ مثل هذا الطلاق. وأما قصة إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام في أمره ابنَه أن يُطلق زوجته وامتثالُ ابنه أمره، فقد كان لسوء خُلُقِها في مقابلة والده، وتبرُّمِها من المعيشة، وشكواها من ضيق الحياة- لا لمجرد الهوى، ولذا لم يأمره بطلاق الثانية لحُسن مقابلتها ورضاها بالمعيشة وثنائها على الله تعالى وعلى الحياة الزوجية.
وقد جاء رجلٌ إلى الإمام أحمد رحمه الله فقال: إن أبي يأمرني أن أطلِّق زوجتي، قال له الإمام أحمد: لا تطلقها. قال: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ابنَ عمر أن يطلق زوجته حين أمره عُمَر بذلك؟ قال: وهل أبوك مثل عمر(2)؟
وهو يشير بهذا إلى ما رواه أبو داود، والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانت تحتي امرأة، وكنت أحبُّها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت، فأتى عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «طَلِّقْهَا»(3).
ونحن نعلم علمَ اليقين أن عمر لن يأمر عبد الله بطلاق زوجته إلا لسبب شرعي، وقد يكون ابنُ عمر لم يعلمه؛ لأنه يبعد أن يأمر عمر ابنه بطلاق زوجته ليفرق بينه وبين وبينها بدون سبب شرعي.
ولكن التماس رضا الأب على الزواج من قبيل البرِّ وحُسنِ الخلق، وقد تعبده الله بذلك، وإذا أبدى الأبُ أسبابًا وجيهةً للاعتراض فينبغي على الابن طاعتُه في ذلك؛ لأنه قد أمر بطاعة أبيه في غير معصية، وعلى الابن أن يسعى في توسيط بعض الصالحين الوجهاء ليشفعوا له عند أبيه، وأن يُكثر الضراعةَ إلى الله عز وجل أن يشرح صدر أبيه لهذا الزواج وأن يرزقه رضاه عنه.
والذي أنصح به أن يتريث الولد وأن يبذل مزيدًا من الجهد في استرضاء والده، لعلَّ الله أن يشرح صدره لذلك، فإن أبى الوالد بعد استفراغ الوسع في ترضيته فأرجو أن لا حرج على الابن في إتمام هذا الزواج. ولعل الله أن يرزقه رضا أبيه عن ذلك بعد أن يصبح زواجه أمرًا واقعًا. والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________
(1) «مجموع الفتاوى» (32/30).
(2) ذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (1/475).
(3) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في بر الوالدين» حديث (5138)، والترمذي في كتاب «الطلاق واللعان» باب «ما جاء في الرجل يسأله أبوه أن يطلق زوجته» حديث (1189)، وقال: «هذا حديث حسن صحيح».

تاريخ النشر : 25 أكتوبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح
التصنيفات الفقهية:  

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend