شيخنا الجليل، إني من محبيك في الله، ولكم إطلالة صادقة ينشرح لها الفؤاد.
سؤالي شيخي: أنا زوجة ثانية لرجل أحببته بصدق شديد وبإخلاص عميق، وهو أهل لذلك؛ لأن به من الطيبة الكثير، تزوجنا بعد معاناة مع الأهل، وبعد أيام قليلة سنتم سنتنا الأولى، المشكلة أني لم أره في هذه السنة إلا أيامًا معدودة تعد على أطراف الأصابع، فأنا في بلد وهو في بلد آخر مع زوجته التي طبعًا كانت معارضة لزواجه، وكبَّدته وكبدتني من المتاعب النفسية ما لا يعلم به إلا الله، ورغم ذلك بقيت بعيدة لا أرد؛ خوفًا من أي مشاكل قد تحدث بسببي.
الآن أنتظر أن تتم أوراقي للإقامة مع زوجي، لكن الأمر طال، وأنا أعيش في حالة نفسية مزرية جدًّا، فبي من العذاب والألم ما يهدُّ جبالًا، فزوجي في البعد يقلِّل جدًّا معي من الاتصالات الهاتفية، وحتى عبر النت فكلامه معي قليل جدًّا، حتى يخال لي في بعض الأحيان أنه قد نسيني، وفي كل مرة أتصبَّر وأقول لنفسي أني أنا من قَبِل هذا الوضع، لكني لم أقبله إلا حبًّا فيمن لم أعد أرى سواه في الدنيا زوجي، الألم الذي أعيشه أنه لا يواصلني إلا نادرًا، والأيام والسنون تمر وأنا أنتظر، حتى إني لا أستطيع الاتصال به، فكل هذا خوفًا على مشاعر زوجته الأولى، لدرجة أصبحت مشاعري في مهب الرياح، ولا أعلم ما ينتظرني وما ينتظر هذه العلاقة، شيخي لقد ضاقت بي الدنيا فأصبحت شبه إنسانة، لا الحياة حياة ولا العمر عمر، حتى المأكل والمشرب أصبحا عندي من الكماليات.
شيخي سؤالي: هل هذا عدل أن يتصرَّف زوجي معي هكذا؟ هل أنا من يجب أن أصبر أكثر؟ علما أني أصبر جدًّا، فلم أسمع صوت زوجي منذ أكثر من شهر.
شيخي رجائي أن تدلَّني على الطريق الصحيح وما الذي يجب أن أفعله، وماذا على زوجي كي يشعر بما أقاسيه؟ فكلما شكوت له حالي قال لي: اصبري. رجاءً شيخي دُلَّني، فأنا منهارة نفسيًّا وجسديًّا، ورجائي منك كلمة توجهها لزوجي العزيز.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن العدل هو الأصل في التعدد، والعدل يكون في المبيت والنفقة، ومن لا يقوى على ذلك فقد قال له ربه جل وعلا: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: 3]، وفي بعض الحالات الاستثنائية تتنازل الزوجة عن بعض حقوقها في المبيت والنفقة لمصلحة تقدِّرها على أمل استصلاح الأحوال في المستقبل، أو تقديرًا لظروف زوجها التي لا تمكِّنه من إقامة العدل في وضعه الراهن على النحو المنشود، وقد قال ربي جل وعلا: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128].
فيرجع الأمر في هذه الحالة إلى الزوجة، فإن قويت عليه ولم يعرضها لفتنة في الدين فلها ذلك، وإن أدخلها في سلسلة من العذابات والصراعات فخير لها أن تقف مع نفسها ومع زوجها وقفة تصحح فيها هذه الأوضاع، فإما أن يبذل لها ما يخفف معاناتها ويضمد جراحاتها، أو أن يفارقها بإحسان، وقد قال ربي جل وعلا: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 130]، ونظرًا لهذه المعاناة العصيبة التي تمر بها السائلة فإننا ننصحها بأن تأتمر في ذلك بينها وبين زوجها بمعروف، وأن تصل بسفينة حياتها معه إلى مرفأ!
إن الله جل وعلا لم يشرع التعدُّد ليشقى به أحد الزوجين، بل ليحقق مصالح راجحة ويدفع مفاسد ظاهرة، وفي الحالة التي يكون فيها مصدر معاناة وتعاسة وآلام مستمرة فإن تطبيقه في هذه الحالة يحتاج إلى مراجعة وتأمل، فإن الشريعة رحمة كلها ومصلحة كلها، وأيُّما أمر خرج في بعض تطبيقاته من الصلاح إلى الفساد، ومن السعادة إلى الشقاوة فلا يكون الاستمرار فيه والحال كذلك من الدين، ولا مما أمر الله تعالى به، وإن كان تطبيق ذلك يحتاج إلى فقه لا مدخل فيه للعامة وأشباه العامة، وينبغي سؤال أهل الذكر دائمًا في أمثال هذه النوازل، فأتمري في ذلك مع زوجك بمعروف، واعلمي أن الله قد وعد من تفرَّقا لأسباب شرعية بغنى من عنده، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 130]، وسلي الله أن يلهمك الرشد، وأن يحملك في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبة. والله تعالى أعلى وأعلم.