شيخي الفاضل؛ بداية أدعو الله العزيز القدير لكم بالصحة والعافية.
لدي مشكلة شرعية وأطلب منكم الرأي الشرعي فيها بما علَّمكم الله تعالى ومن بعد فضلكم.
أولًا: أنا مسلم سُني ومصلٍّ ولكن لست على علم بفقه الدين، وبالأحرى أنا جاهل بتفاصيل الفقه، ولي زوجة مخلصة مجتهدة قائمة بواجبها وجزء كبير من واجبي، ولدي طفلان ذَكرَان نحبهما حبًّا شديدًا، ونعيش في بلاد الأجانب. في حال الغضب الشديد أنا والله لا أملك نفسي، وهي كذلك، فلا أنا انفككت عنها ولا هي انفكت ووصلنا لبذيء الكلام. ووالله أُحمِّل نفسي الجزءَ الأكبر، كما وإنها عنيدة.
ثانيَا: عنوان مشكلتي أني مطلِّق ثلاثًا وأبحث عن حلٍّ.
شيخي أريد رأيًا شرعيًّا بعد شرحٍ جيِّد لوقائع كل طلقةٍ، فإن كان هناك حلٌّ فإني والله محبٌّ لزوجتي وأولادي، وأكثر من هذا وذاك أني أريد المحافظة على عائلتي، فإن كان لي فتوى بحلٍّ أطعت وحمدت الله، وإن لم يكن لي حلٌّ أطعت وحمدت الله أيضًا.
الطلقة الأولى: تمت تقريبًا منذ عشر سنين ونيف، بعد زوجنا بأشهر قليلة، فقد نشب خلاف شديد بيننا صباحًا حتى وصل الخلاف أنها تريد الذهاب لمنزل أهلها، فمنعتها وأخطرت والدتها أن تأتي لكي لا تخرُج زوجتي من المنزل، ولكن كما أسلفت إن زوجتي شديدة وعنيدة فقد قررت الذهاب لبيت منزلها ووافقتها والدتها، سامحها الله، فحلفت يمينًا إن خرجت من المنزل ذاهبةً لبيت أهلها فسوف أطلقها عقابًا، وفعَلَتْ هي، وألقيت يمين الطلاق أمام والدتها، ثم أرجعتها بعد عشرة أيام تقريبًا.
الطلقة الثانية: كانت في بلاد الأجانب: كذلك شبَّ خلافٌ ولم نتمالك أنفسنا كالعادة، فوصلنا لنقطةِ أنها هددت إن لم أخرج أنا من المنزل فستخرج هي، فهددتها أيضًا إن خرجت من المنزل وعصيت أمري فسأطلقها، وكان لي أهداف بهذا التهديد ولكن أهم شيء أني كنت أريدها أن تطيعَ أمري ولا تعصيه أو تعُقَّه، ولكن من شدة غضبها وعنادها خرجت أمامي فلحقتها خارجًا وألقيت عليها يمين الطلاق عقابًا لها لعقوق أمري وليس كُرهًا، ولِـمَا وصلتُ له من غضبٍ عارمٍ حتى خرج الزبدُ من طرفي فمي، وسحبتها سحبًا وأرجعتها للمنزل ولو شاهدني أحد الجيران لأخطر شرطة البلد ولدخلت السجن.
أما الطلقة الثالثة: كذلك غضبت وتقاتلت، ولكني هذه المرة خرجت من المنزل لجيراني ثم رجعت، فشبَّ الخلاف مرة أخرى، فأخذت ابني الأكبر وذهبت لجيراني مرةً أخرى هربًا من جحيم الخلاف، ولكن الزوج أراد الذهاب لقضاء حاجة فقال لي أن أبقى وأنام في الغرفة الخاصَّة بمبيت الضيوف، ولكنني لم أستنسب البقاء وزوجته بالمنزل فخرجت ورجعت منزلي وذهبت لغرفة الأولاد لأنام، ولكن لسوءِ حظي دخلت زوجتي لتقضي بعض الأمور وأمرتني أن أخرج من الغرفة فلم استسغ عباراتها فصرخت بها، ثم هاتفت جارتنا بأن تقدم لمنزلي وتجلب ولدي، وما إن رأت زوجتي جارتنا حتى بدأت بشَتمِي أمامها؛ وخُيل لي أنها شتمت والدتي المتوفاة وقد فعلت قبلُ وفي نفس اليوم، (وقد قلت خُيل. لأنها بعد ذلك عندما سألتها، أقسمت أنها لم تشتم والدتي أمام جارتنا)، وهنا هزَّت كرامتي فاستشاط غضبي جدًّا جدًّا، فطلَّقتُها، وعلى الفور خرجت لجاري وبكيت عنده ندمًا على حماقتي وزلة لساني، وفي هذه الطلقة كانت زوجتي حائض أو مستحاضة، كما أنني مسستها في طهرها ولكني لقلة علمي بأصول الدين فعلتها.
شيخنا الفاضل والله لا أعرف كل هذا كيف جرى، فقد قلت قبلُ أنه خُيِّل لي أن زوجتي قامت بسباب والدتي، كذلك سُؤلت من قِبَلها لم جلبت جارتنا، هل لتهينني أمامها، فكان جوابي بالقسم لا أعرف لماذا (وأنا صادق بهذا)، أقسم بالله أني عبر كل السنين الماضية كنت مهما أغاظتني هربت من المنزل هربًا من هذه الكلمة؛ لأني أعرف أبعادها، ولكن هذه المرة فلتَ لساني لشدَّةِ غضبي، والله كنت أحس بأن قلبي سيخرج من صدري.
ندمت مساءًا ندمًا شديدًا فسهرت الليل أبحث عن الحكم الشرعي في الطلاق، ووجدت الطلاق البدعي والسني كما وجدت الطلاق المعلَّق، وطلاق الغضبان، ورأيت كثيرًا من الفتاوى.
ذهبت اليوم التالي لأحد الشيوخ والذي أعلمه عنه أنه يتبع أهل السلف ورَوَيت له ما حدث ولكني تذكَّرت الطلقة الثالثة والثانية ولم استطع تذكُّر الأولى بتفاصيلها في تلك اللحظة، فكان رأي شيخنا أن الطلقة الثالثة واقعة بدعي، وأما الثانية فسألني ماذا قلت وما كان قصدي بتلفظ الطلاق فقلت له: والله يا شيخي قد غضبت وأنا واعٍ لما قلت، ووالله إن نيَّتي بها عقوبةٌ على عقوقي وإلزام ليميني. فأفتاني بكفارة (ففعلت) وعدم وقوعها؛ وذلك تصديقًا لما قلت له عن نيتي.
لا يزال قلبي متشككًا، فأسألكم بالمولى القدير بأن تنظروا في قضيَّتي بأسرع وقت وسأتحمل قضاءَ الله وقدره وما صنع لساني وغضبي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأول ما ننصحك به قول النبي صلى إله عليه وسلم: «لَا تَغْضَبْ»(1)، وإذا غضبت يا بني فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وغيِّر الحالة التي تكون عليها، فإن كنت قائمًا فاقعد، وإن كنت جالسًا فاضطجع. ولا بأس بمفارقة المنزل لفترة وجيزة ريثما تسكن ثائرتك، ويسكت عنك غضبك. واستشعر الثواب الجزيل الذي أعدَّه الله عز وجل للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس(2). واعلم يا بني أن الحلم بالتحَلُّم، وأن الصبر بالتصبُّر(3)، ونسأل الله لك العون والتوفيق.
أما بالنسبة للأيمان التي حلفتها: فالذي ينظر إليه فيما قصصت يا بني هو درجة الغضب الذي اعتراك عندما أحدثت هذه الطلقات: فإن كان قد بلغ بك مبلغ الإغلاق، فـ«لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقِ»(4). وهو الذي يغلق على المرء باب القصد وباب العلم، بحيث يكون مدفوعًا إلى الطلاق، لا يملك له إيقافًا، ولا يدري ما يقول ولا يقصده.
ولا ينفعك الاحتجاج بالنية، لأن صريح الطلاق لا يُنوَّى فيه صاحبه، ولأن الطلاق المعلَّق يقع عند وقوع المعلق عليه عند جماهير أهل العلم، ولا اعتبار للتفريق بين من قصَد الحضَّ أو المنعَ أو التصديق أو التكذيب، أو قصد الطلاق عندهم. ومن أهل العلم من أجرَى الطلاق المعلَّق مجرى الحلفِ بالطَّلاق، إذا قُصد به الحضُّ أو المنعُ أو التصديق أو التكذيب، فأوجب فيه عند الحنث كفارة يمين، ولم يحتسبه طلاقا، ومع الترخص والأخذ بهذ القول، فإنه لا ينفعك في الطلقة الثانية، لأنك أوقعتها عليها بعد وقوع المعلق عليه، وفعلت ذلك على سبيل العقوبة لها، وليس بقصد منعها، فقد خرجت بالفعل.
كما يُمكن النظر في طلقتك الثالثة إلى قول من أفتى بعدم وقوع الطلاق البدعي، وهو قول جمهرة من أهل العلم، وإن كان يخالفُ ما عليه أئمة المذاهب الأربعة، ويخالف ما تبنَّته وثيقة مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا للأحوال الشخصية، ولكن يوجد من يُفتي به من أهل العلم الكبار كالشيخ الألباني، والشيخ ابن عثيمين وغيرهم، وهذا هو المخرج الآخر في قضيتك.
ووصيتي أن ترجع إلى أحد ممن تثق فيهم من أهل العلم، المخالطين لكم والقريبين منكم، ليستمع لك بالتفصيل، ويناقشك فيما تقول، ويستثبت مما يريد أن يستثبت منه، ثم يفتيك بما أراه الله عز وجل، وأسأل الله يا بني أن يجعل لك من همك فرجًا، ومن ضيقك مخرجًا. والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «الحذر من الغضب» حديث (6116) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) قال تعالى:﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].
(3) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الزكاة» باب «الاستعفاف عن المسألة» حديث (1469)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «فضل التعفف والصبر» حديث (1053)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثمَّ سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده فقال: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ».
(4) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/ 276) حديث (26403)، وأبو داود في كتاب «الطلاق» باب «في الطلاق على غلط» حديث (2193)، وابن ماجه في كتاب «الطلاق» باب «طلاق المكره والناسي» حديث (2046)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 216) حديث (2802). من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وحسنه الألباني في «إرواء الغليل» حديث (2047).
