فضيلة الشيخ، تزوجني وأنا في مقتبل العمر (19 سنة) وانقطعت لخدمة مشاريعه الاستثمارية، ولم أستكمل دراستي لهذا الغرض، وبقيت في هذا الزواج لمدة 26 سنة، وأكرمنا الله بخمسة من الولد، وقد ظل والدي لبضعة سنوات يقدم لي معونة شهرية لم أستطع أن أضعها في حساب خاص بي لأن زوجي كان شكَّاكًا، ولو فعلت لفتحت على نفسي أبوابًا من الشكوك لا قِبَل لي بها، والآن وبعد مُضيِّ هذه السنين لم أعد أُطيق استدامةَ حياتي معه لعصبيته وسوءِ عشرته التي جعلت حياتي معه محرقةً كبرى طوال هذه السنين.
والآن وصلت إلى قرار الطلاق ومطالبي ما يأتي:
أن يعوضني عن عملي معه طوال هذه السنين كمساعِدة متفرغة، لا أقصد أعمال المنزل بل أعماله الاستثمارية والتي بسببها لم أستكمل دراستي الجامعية. وأن يرد عليَّ ما بذله لي والدي من معونة شهرية التي حرمت من أن أضعها في حساب خاص لي بسبب شكوكِه التي أحرقتني طوال هذه السنين. أفتونا مأجورين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد كنتُ أرجو بعد طول هذه العشرة أن تأتمروا بينكم بمعروف، وأن تتجنبوا هذه النهاية البئيسةَ التي تتحدثون الآن عنها؛ لاسيما وقد رزقكم الله خمسةً من الولد، فإن أبيتُم إلا ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأوجز القول في مشكلتك فيما يلي:
أولًا: من حيثُ حقُّ الزوجة في تعويض عادلٍ عن مشاركتها أعمال زوجها المهنية، وتكريس حياتها لذلك، فهو حقٌّ مشروع، يرجع في تقديره إلى الخُبراء، فإن تنازعوا فالحَكَمُ هو القضاء، وقد جاء في قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حول نوازل الأسرة المسلمة خارج ديار الإسلام ما يلي: إذا شاركت الزوجة زوجَها في استثماراته التجارية بخبرتها وعملها مشاركة تتجاوز حدودَ الخدمة المنزلية التي تكون بين الزوجين في العادة، كان لها في ثروتِه نصيبٌ، يرجع في تقديره إلى أهل الخبرة حسبما بذلت من جُهد وما تحصَّل من ثروة.
ثانيًا: أما مساعدة والدها لها، والتي تم خلطُها مع الأموال المشتركة، وإنفاقها على الأسرة، فهي ليست دَيْنًا خالصًا على الزوج، فقد تمَّ إنفاقها طواعيةً على الأسرة، ولعل الزوجة توسعت بسببها في بعض النفقات الكمالية التي ما كان الزوج لِيُقرَّ إنفاقَها في الأحوال العادية، ولعل الزوج لو علم ابتداءً أنه سيُطالب بهذه الأموال عند الفراق وتصبح بكاملها دينًا في ذمته لكان له معها شأن آخر، فلا يجمُل بعد أن طابت نفسُ الزوجة بالأمس بإنفاقها على الأسرة في أيام الوفاق والألفة، أن تعتبرها اليوم دينًا حتميًّا واجبَ القضاء على الزوج في أيام الفتنة والمحنة، لاسيما مع ما هو مقرر في الشريعة من حُرمة العود في الهبة(1). وإنما يسع الزوجين أن يأتمروا بينهم بمعروف، وأن يحلوا ذلك صلحًا، بأن يتفقوا على استعادة نسبةٍ منها تطييبًا للخواطر، وجبرًا للقلوب.
والمتبع في مثل هذا توسيطُ بعض أهل العلم للإصلاح بينهم، وتجنيبهم اللجوء إلى المحاكم الوضعية، التي تستنزف أعمارَهم وأموالهم، وتغتالُ ما بقي من أرصدة الخير في العلاقة بينهم؛ تلك الأرصدة التي ينبغي أن نحافظ عليها، وأن ننميها لمصلحة الأولاد الذين يمثلون رباطًا دائمًا بينهم إلى أن يلقو ربهم عز وجل.
وأذكر الجميعَ بقول الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
وتطبيقًا لما سبق: فهذا مقترح لحل هذه القضية صلحًا، وتسويةً وديَّةً للنزاع، وليس تحكيمًا ولا قضاءً، وأكرر هذه محاولة للإصلاح والتسوية الودية، وليس حُكمًا قضائيًّا، ولا قرارًا تحكِيميًّا، فأنا مُصلحٌ ولست بقاضٍ ولا محكِّم، والأمر في باب الصلح أوسعُ، فـ«الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْـمُسْلِمِينَ إِلا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»(2).
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصلَ القضاء يُورث بينهم الضغائن(3).
فإن قبلتُم هذا المقترحَ فالحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وإن كانت الأخرى فلا نملك لكم إلا الدعاءَ بالهُدى والتقى، وأن يؤلف الله بين قلوبكم، وأن يجمعكم على الخير ونعتذر عن مواصلة المسير؛ لأن هذا هو مبلغ جهدنا، وأقصى وسعنا والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________________
(1) فقد أخرج مسلم في كتاب «الهبات» باب «كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه» حديث (1620): أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حَمَل على فرس في سبيل الله فوجده عند صاحبِه وقد أضاعه، وكان قليلَ المال، فأراد أن يشتريَه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: «لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أُعْطِيتَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ مَثَلَ الْعَائِدِ فِي صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «الأقضية» باب «في الصلح» حديث (3594)، وابن حبان في «صحيحه» (11/ 488) حديث (5091) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3594).
(3) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (8/ 303) حديث (15304)، والبيهقي في «الكبرى» (6/ 66) حديث (11142)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/ 534) حديث (22896).