بعد عدة أيام من مشاحنة بيني وبين زوجتي أتى وقت الصلح منها، ومداعبة لم أكن مهيئًا لها نفسيًّا، وأنا أتطرق إلى العتاب وفي نيتي الصلح داخل نفسي، تطرق الحديث إلى أني رب الأسرة وإن لم أفعل صيانة في المنزل. قالت: طلقني. بطريقة مزحٍ قمت وأنا لا أعي برد الكلمة: طالق. وقتها لم أكن أفكر في الطلاق، ولا نية في الطلاق، تلفظت بطريقة عفوية كرد سريع للحديث. هل تحسب طلقة؟ وإن حسبت كيف أكفر عنه؟ وشكرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن صريح الطلاق لا يُنوَّى فيه صاحبه، أي لا يسأل فيه عن نيته، فالطلاق من الأمور الثلاث التي يعد هزلها جِدًّا(1).
فما دمت قد تلفَّظت بهذه الكلمة وأنت قاصدٌ إلى التلفظ بها، مدرك لمعناها، لست ذاهلًا ولا مغلوبًا على عقلك، ولم تسبق إلى لسانك على سبيل الخطأ، ولا جرت على لسانك بغير قصد؛ فقد احتسبت عليك.
جاء في «الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني»: «القصدُ المراد به قصد التلفظ بالصيغة الصريحة أو الكناية، أو قصد حل العصمة بالكناية الخفية»(2).
وقال العدوي: «حاصله أن المراد قصد النطق باللفظ الدال عليه في الصريح، والكتابة الظاهرة، وإن لم يقصد مدلوله وهو حل العصمة وقصد حلها في الكتابة الخفية»(3).
وجاء في «الشرح الكبير» للشيخ الدردير و«حاشية الدسوقي»: «لا إن سبق لسانه بأن قصد التكلم بغير لفظ الطلاق فزل لسانه فتكلم به فلا يلزمه شيء مطلقًا إن ثبت سَبْق لسانه، وإن لم يثبت قُبِل في الفتوى دون القضاء»(4).
فاشتراط القصد في الطلاق الصريح يقصد به أن يقصد المتكلم الطلاق إذا تلفظ به، فلا يقع طلاق الفقيه، إذا لم يقصده؛ لأنه عادة ما يكرره، ولا طلاق من يحكي الطلاق عن نفسه أو غيره، ولا طلاق أعجمي لقن لفظ الطلاق بلا فهم منه لمعناه، كما لا يقع طلاق مَرَّ بلسان نائم، أو من زال عقله؛ لعدم توافر القصد في الطلاق في ذلك كله.
فإن كانت هذه هي الطلقة الأولى أو الثانية فتلك طلقة رجعية، يمكنك إرجاع زوجتك بعدها ما دامت في العدة؛ لقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ [البقرة: 228]، والرجعة تكون بالقول: أرجعت زوجتي إلى عصمتي. وتكون بالفعل: كالوطء، أو مقدماته إن قصدت بها الرجعة. وأما إن كانت الثالثة فلا تحل لك من بعد حتى تنكح زوجًا غيرك؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230]. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الطلاق» باب «في الطلاق على الهزل» حديث (2194)، والترمذي في كتاب «الطلاق» باب «ما جاء في الجد والهزل في الطلاق» حديث (1184)، وابن ماجه في كتاب «الطلاق» باب «من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا» حديث (2039)، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُـهُنَّ جِدٌّ؛ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ». وقال الترمذي: «حديث حسن». وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» حديث (3027).
(2) «الفواكه الدواني» (2/30-32).
(3) «شرح مختصر خليل للخرشي» (4/31).
(4) «حاشية الدسوقي» (2/366-367).