أحقية الأموال المدفوعة للأطفال من قبل الحكومة الكيبيكية بعد انفصال الوالدين(2)

شيخنا العلامة الدكتور صلاح الصاوي حفظكـم الله تعالى, الأمر جللٌ يا مـولانا، وإنَّ إجابتكـم عامَّةٌ نحتاج فيها إلى استدلال بنصوص مـن كتاب الله وسنة نبيه، مع إجلالي لعلـمكـم وقدرِكـم، لأنَّ كلامكـم الذي يصدر عن قلبـكـم النقيِّ يعطي الذريعة للوالد الـمسلـم بالتنصُّل من مسئولياته، خصوصًا في كندا حيث يكذب كثيرون من الآباء بقولهـم: لا نجد عـملًا. لأنهـم قنعوا بنفقة كندا عليهـم وعلى أولادهـم فتكاسلوا وشوهوا صورة الإسلام وخالفوا قول الله: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
ونشهد جـميعًا أن العـمل هنا متاحٌ للجـميع للشباب والكهول حتى الأطفال في سن الخامسة عشرة في كل الـمجالات، وما أيسره في الـمؤسسات الكبرى مثل ماكسي وولمارت أو في الـمتاجر التي يـملكها الـمسلـمـون، فمن يتقي الله يجعل له مخرجًا.
وإذا كان النصارى الذين يسْكرون ويرتكبون الفواحش لا يبخلون بالنفقة على أبنائهـم فلا ينبغي أبدًا أن نجد ذريعةً للـملسـمين كي يتهربوا من مسئولياتهـم بإصدار مثل هذه الفتاوى؛ خصوصًا أن بعض الـمشايخ مـمن نعرفهـم شخصيًّا وتعرفهـم الجالية قد تنصلوا من الإنفاق على أبنائهـم مستدلين بشرع الله، وهو براءٌ من افترائهـم فصاروا عُرضةً على لسان الجالية، أحدهم اعترف أمامنا أنه بنى مشروعه بـمال طليقته عندما واجهتُه في ذلك.
وأين يذهب الجـميع من قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233]؟!
وأين هـم من قوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾ [الطلاق: 6]. وقد شهدنا كيف ضيَّقا على طليقاتهن بالقول والفعل؟!
وأين هـم من قول رسول الله: «كَفَى بِالْـمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»(1). و«كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه»(2)؟!
وأرجو أن يُرسل إليكـم يا شيخنا العلامة الدكتور صلاح الصاوي تسجيلات شيخي العالـم خليل سليـمان الذي وجَّه نصيحة لأحد هذين الشيخين في مونتريال كي تنظر في استدلاله؛ لتخرج لنا بفتوى شاملة تـمنع بعض الـمشايخ من توظيف كلام الله ورسوله حسب مصالحهـم وأهوائهـم.
بارك الله بجهدكـم الكريـم وعذرًا لـمراجعتكـم.

الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأتفهَّم بساط الحال الذي كتبت فيه هذه المراجعات، وأتفهم غَيْرَتَكم الحميدة على عِرض الجالية المسلمة، ومن قبلها عِرض الملة والأمة بصفة عامة أن تَنال منها تصرفاتٌ شائهة ومنكرة، يتولى كِبرَها بعضُ الكسالى أو السكارى أو البخلاء.
وأتعاضد معكم في البحث عن سُبُل لحلها، وتنبيه الناس على خطورتها على دينهم وديناهم معًا.
ولكن هذا لا ينبغي أن ينال من الثوابت، والتي سبق تضمينُ بعضها في الفتوى السابقة.
إنه لا منازعة في وجوب نفقة الوالد على ولده المحتاج الذي لا مال له، والأدلة على ذلك ظاهرة ومستفيضة، وهي مقيدة عند أهل العلم بعدم وجود مال للولد، وهذا الذي أذكره لكم كالـمُجمع عليه، فإن أهل العلم يفرقون بين نفقة الزوجة ونفقة الولد مثلًا، فنفقة الزوجة مبناها على العِوَض، ولهذا تجبُ للزوجة ولو كانت تملك المليارات، ولكن نفقة الولد مبناها على المواساة، فلا تجبُ على الأب مع وجود مالٍ لولده.
ومن ناحية أخرى فإن نفقة الزوجة تجبُ مع الإعسار؛ لأنها بدلٌ، فأشبهت الثمن في المبيع، ونفقة الولد والقريب بصفة عامة مواساة فلا تجب إلا من الفاضل لقول الله تعالى‏:‏﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: 219].‏
قال القرطبي في «تفسيره»: «وقد أجمع الفقهاء إلا من شذَّ منهم أن رجلًا لو كان له ولد طفلٌ وللولد مال، والأب موسر- أنه لا يجب على الأب نفقة ولا رضاع، وأن ذلك من مال الصبي. فإن قيل: قد قال الله عز وجل: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233]. قيل: هذا الضمير للمؤنث. ومع هذا فإن الإجماع حدٌّ للآية مُبيِّنٌ لها، لا يسع مسلمًا الخروج عنه»(3).
قال ابن المنذر رحمه الله: «وأجْمع كُل منْ نحْفظُ عنْهُ منْ أهْلِ الْعِلْمِ، على أن على الْـمرْءِ نفقةُ أوْلادِهِ الأطْفالِ الذِين لا مال لهم»(4).
ولأن ولد الإِنْسانِ بعْضُهُ، وهُو بعْضُ والِدِهِ، فكما يجِبُ عليْهِ أنْ يُنْفِق على نفْسِهِ وأهْلِهِ كذلِك على بعْضِهِ وأصْلِه.
قال الشافعي رضي الله عنه: «وإن كانت لهم أموال فنفقتهم في أموالهم»(5).
قال الماوردي: «وهذا صحيح: لأن نفقة الأولاد مواساةٌ، فوجبت مع العدم وسقطت مع الغِنَى، وإذا سقطت نفقةُ الأولاد بالغنى، فسواء كان الولد ذكرًا أو أنثى، ولا يخلو حال ماله من أحد أمرين: إما أن يكون حاضرًا أو غائبًا، فإن كان حاضرًا فلا فرق بين أن يكون قد ملكه بواجب كالميراث أو بتطوع كالهبة والوصية، ولا فرق بين أن يكون ناضًّا(6) أو عقارًا ناميًا كان أو غير نامٍ، فلو كان أبوه قد وهب له مالا فما لم يقبضه الابن فنفقته على الأب، فإذا أقبضه إياه سقطت نفقتُه عن الأب، ووجبت على الولد في المال الذي ملكه عن أبيه بالهبة، فإن أراد الأبُ الرجوعَ في هبته فله الرجوع، وعليه أن يُنفق بعد رجوعه عليه، وإن كان ماله غائبًا فعلى الأب أن ينفق عليه فرضًا موقوفًا، فإن قدم ماله سالمًا رجع الأب بما أنفق سواء أنفق بحكم أو بغير حكم إذا قصد بالنفقة الرجوع؛ لأن أمرَ الأب في حق ولده أنفذُ من حُكمِ الحاكم، وإن هلك مال الولد قبل قدومه- بان استحقاقُ نفقتِه على الأب من الوقت الذي تلف ماله فيه؛ لأنه بتلف ماله صار فقيرًا من أهل المواساة، فإن تلف ماله من أول إنفاقه سقط جميعه، وبرئت ذمة الولد منه، وإن تلف ماله بعد أن مضى زمان بعض النفقة وبقي زمان بعضها سقط من ذمة الولد ما أنفقه بعد تلف ماله، ولم يسقط ما أنفقه قبل تلفِه، وكان ذلك دَيْنًا له على ولده، يرجع به إذا أيسر أو بلغ»(7).
وقال ابن قدامة رحمه الله: «ويشترط لوجوب الإنفاق ثلاثة شروط‏:‏
أحدها ، أن يكونوا فقراء ، لا مال لهم ، ولا كسب يستغنون به عن إنفاق غيرهم ، فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يستغنون به ، فلا نفقة لهم ; لأنها تجب على سبيل المواساة ، والموسر مستغن عن المواساة .
الثاني ، أن يكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم ، فاضلا عن نفقة نفسه ، إما من ماله ، وإما من كسبه . فأما من لا يفضل عنه شيء ، فليس عليه شيء ; لما روى جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كان أحدكم فقيرا ، فليبدأ بنفسه ، فإن فضل ، فعلى عياله ، فإن كان فضل ، فعلى قرابته . } وفي لفظ : { ابدأ بنفسك ، ثم بمن تعول } . حديث صحيح…. ولأنها مواساة ، فلا تجب على المحتاج ، كالزكاة
الثالث ، أن يكون المنفق وارثا ; لقول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } . ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس ، فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم ، فإن لم يكن وارثا لعدم القرابة ، لم تجب عليه النفقة لذلك (8).
وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن والد غني وله ولد معسر فهل يلزم الوالد الغني أن يُنفق على ابنه المعسر؟
فأجاب رحمه الله: «نعم، عليه نفقةُ ولدِهِ بالمعروف إذا كان الولدُ فقيرًا عاجزًا عن الكسب والوالدُ مُوسرًا»(9). اهـ.
فهذه هي مقالاتُ أهل العلم، وهي تؤكد الأصل السابق، ويبقى بعد ذلك النظرُ في هذه المسألة سياسةً، فإذا تواكل الآباء، وعوَّلوا على نفقاتٍ تُرضخ إلى أولادهم، ورضوا بالبطالة والقعود عن السعي، وأنفقوا أعمارهم كسالى متسكعين، يعيشون على فتات يرضخ لأولادهم من غير المسلمين، فهنا يمتهد سبيلٌ لتقييد المباح، وإلزام الآباء بما يدفع عن عِرض الأمة والملة، من السعي الواجب والإنفاق المشروع، وهذا يتفاوت من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ولكن مردُّ هذا إلى النظر المصلحي، وليس إلى الحكم الأصلي المقرر في هذا الباب. والله تعالى أعلى وأعلم.

_______________________
(1) أخرجه أبو داود بلفظه وتمامه في كتاب «الزكاة» باب «في صلة الرحم» حديث (1692)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم» حديث (996) بلفظ: «كَفَى بِالْـمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ»، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «النكاح» باب «المرأة راعية في بيت زوجها» حديث (5200)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم» حديث (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) «تفسير القرطبي» (3/170).
(4) «الإجماع» لابن المنذر (1/79).
(5) «الأم» (87).
(6) ناض الشيء نوضًا: تحرَّك وتذبذب. «المعجم الوسيط» (ناض).
(7) «الحاوي الكبير» (15/84-85).
(8) «المغني» (8/213-215).
(9) «مجموع الفتاوى» (34/105).

تاريخ النشر : 10 ديسمبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   06 الطلاق

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend