صديقتي تُوُفِّي عنها زوجُها وترك ديونًا، وهي عبارة عن ضرائب كان لابُدَّ أن يدفعها للحكومة الهولندية ولم يترك أيَّة تركة، وتُوُفِّي عن ولدين أحدهما عمره سنة والآخر سبع سنوات، السُّؤال:
هل تدفع صديقتي هذه الديون عنه؟ مع العِلْمِ أنه ليس لها مالٌ لتسديده.
عند وفاة زوجها جمع لها بعضُ المحسنين مبلغًا من المال وقالوا لها: إنه لليتيمين، أي ولديها، غير أنها تصرَّفت فيه وأنفقت منه على طفليها وعلى نفسها ونفد أكثره، هل هي ملزمة بتعويض هذا المال كله وعدم مسه حتى يبلغ طفلاها أَشُدَّهما؟ وما مقدار أكلها بالمعروف؛ إذ هي كانت في حاجة لهذا المال لإنفاقه عليهما؟ بارك الله فيكم وجزاكم الجنة وإيانا اللهمَّ. آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الأصلَ فيما يخلفه الميتُ وراءه من ديونٍ أن تخرج من التَّرِكة قبل قسمها بين الورثة، فإذا كان للميت ممتلكات ستقسم على الورثة فإن البداءةَ تكون بقضاء الديون وإنفاذ الوصايا أولًا، ثم توزع التَّرِكة بعد ذلك.
أمَّا إذا لم يكن قد ترك ما لا يُورث عنه فإن تطوَّع أحدٌ من الورثة أو من غيرهم بقضاء دَيْنِه عنه فقد أحسن، وإلا فإن أَمْرَه يفوض إلى الله عز و جل ، والورثة ليسوا مسئولين عن سداد هذه الديون من أموالهم إلا على سبيل الإحسان والتَّبرُّع. وأظنُّ أن نظامَ المجتمعات الغربية هو إسقاط الديون عن المتوفى الذي لم يخلف وراءه ما يُوفَّى منه دَيْنُه.
أمَّا ما بُذل وجعل وقفًا على اليتامى فإن القيِّمَ على هذا المال له أن يأكل بالمعروف؛ لقوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 6]
وللوالدين خاصة أن يأكلوا، والأمر معهم أوسع؛ لحديث: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»(1)، ولما روته عائشـة قالت: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»(2).
ولما قاله سفيان بن عيينة في قولِه تعالى: ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ﴾ [النور: 61]: «إن الله تعالى قد ذَكَر بيوتَ سائر القرابات إلا الأولاد، لم يذكرهم؛ لأنهم دخلوا في قولِه: {بُيُوتِكُمْ } [النور: 61]، فلما كانت بيوتُ أولادهم كبيوتهم لم يذكر بيوت أولادهـم»(3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وللأب أن يأخذَ من مال ولده ما يحتاجه بغير إذنِ الابن، وليس للابن منعه».
هذا ويُشترط لحِلِّ أَخْذ الوالد من مال ولده شرطان ذَكَرهما ابن قدامة رحمه الله تعالى فقال: للأب أن يأخذَ من مال ولده ما شاء، ويتملَّكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه، ومع عدمها، صغيرًا كان الولد أو كبيرًا، بشرطين: أحدهما: ألا يُجحف بالابن ولا يضرَّ به ولا يأخذ شيئًا تعلَّقت به حاجته، الثَّاني: ألا يأخذ من مال ولدٍ فيُعطيه الآخر.
هذا ونسأل اللهَ لنا ولهذه الأسرة التَّوفيق والسَّداد، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
________________________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب «التجارات» باب «ما للرجل من مال ولده» حديث (2291) من حديث جابر بن عبد الله ب. وذكره الكناني في «مصباح الزجاجة» (3/37) وقال: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط البخاري»
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «البيوع» باب «في الرجل يأكل من مال ولده» حديث (3528)، والترمذي في كتاب «الأحكام» باب «ما جاء أن الرجل يأخذ من مال ولده» حديث (1358)، وابن ماجه في كتاب «التجارات» باب «ما للرجل من مال ولده» حديث (2290) من حديث عائشة ل. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»
(3) انظر: «المغني» (5/395).