سيدي المفتي؛ لعلكم سمعتم ما وقع مؤخرًا في كندا من أحد المسلمين الجُدد، وقتلِه لأحد الجنود، وإصابتِه لآخر، ثم ما انتهى به الأمر إلى قتله، وقريب منه وقع بعد ذلك في نيويورك.
ما فعله هذا أو ذاك كان تأثرًا بالمظالم التي يشهدها يوميًّا تقع على الأُمَّة، ثم ما دعت إليه الدولة الإسلامية (داعش) من التصدي لكل من تحالفوا ضدها ومقاومتهم، وقد حاول هذا الشاب أن يلتحق بهم، وأن يذهب إليهم في العراق فلم يُمَكَّن من ذلك.
أرجو أن تتفهموا موقفنا نحن المسلمين الجدد، عندما لا نجد دولةً تنوب عن الأمة، وتتحدث باسمها، أو تناضل عن حقوقها، ثم نسمع بمثل دعوة الدولة الإسلامية، فقطعًا نشعر بانجذاب نحوها، سواء أكنا على خطأ أم صواب، وسواء أكانوا على خطأ أم صواب، فنحن يا سيدي كالأيتام، بلا راعٍ ولا ممثل.
أنتم في الشرق، في بلاد المسلمين، لكم دُوَلُكم التي تُحدِّد لكم مواقفكم الدينية والسياسية، أما نحن فنبحث عن انتماءٍ وعن راع وعن إمام، ومنا من يهاجر إلى هذه البلاد وقد ينجح وقد يخفق، فما تعليقكم على الموقف برمته؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الذي نبدأ به هو الإنكار على هذا التصرف الطائش الذي وقَع من هذا الشاب، سواء أكان في كندا أم كان في أمريكا، إن صحَّ ما نُسب إليهما، فما صدر على هذا النحو الذي وصفته وسائلُ الإعلام لا تُجيزه شريعةٌ ولا قانون، فليس لأحد منهما- وهو مرتبط مع قومه بميثاق المواطنة- أن يخفر ذمتهم، أو أن ينقض عهدهم، فيروع أمنهم، ويزهق أنفسًا في عهدها، بلا إعذار ولا إنذار، ولا مفاصلة ولا منابذة على سواء.
فالمواطنة رابطةٌ للتعايش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، مهما اختلفت مشاربُهم أو تباينت عقائدهم، وهي تنشئ لُحمةً اجتماعية يترتب عليها واجبات وحقوق متبادلة، وتجعل أصلَ حرمة الدماء والأموال والأعراض والمرافق العامة مشتركًا بين الجميع، ولا مساس بشيء من ذلك إلا وَفْق ما تُحدده القوانين والنظم السارية.
فالإطار الشرعي الذي يحكُم العلاقة بين أبناء الوطن الواحد عند اختلاف الملل والنحل هو ميثاقُ الأمان، أو العقد الاجتماعي الذي تُنشئه رابطة المواطنة، وهو ميثاق على البر والقسط والسلامة من الأذى.
وميثاق المواطنة يقتضي الإقرارَ بسلطة الدولة، وما تلزم به من القوانين الآمرة، ما لم تحمِل على فعلٍ محرَّم أو تركِ واجب، والتسليم لها في غير معصية. فالالتزام بالقانون هو المظهرُ الحضاري الذي يفرق بين المجتمعات المدنية ومجتمع الغاب، والوفاء بهذا الالتزام ضرورةٌ سياسية ودعوية.
ونؤكد أن الولاء الديني وما يقتضيه من محبَّةٍ دينية لأهل الدين، وإغاثتهم عند النوائب، لا يتنافى مع الانتماء الوطني، وما تُنشئه المخالطة الوطنية والصلات الاجتماعية من موَدَّة ومحبة جبِلِّيَّة، ولا يتنافى كذلك مع ما تنشئه الأحلافُ والمواثيق المشروعة بين البشر عامَّة من نُصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإن كان من غير المسلمين، والضرب على يد الظالم ومنعه من الظلم، وإن كان من المسلمين، لعموم مبدأ التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.
هب أن ذلك الشاب أو ذاك قد غضب على قومه بحقٍّ أو بباطل، وخالفهم في المنهج والمعتقد، فقد كان عليه أن ينبذ إليهم على سواء، أن يفارق أرض قومه، وأن يلحق بمن يريد أن يلحق بهم، في مشرق أو في مغرب، ثم يفعل بنفسه حاضرًا ومستقبلًا بعد ذلك ما يشاء، ويتحمل تبعات أقوالِه وأفعاله ومواقفه سياسة وديانة وقضاء.
والقول بأن مسلمي المشرق لديهم من الكيان القانوني للدولة ما يمثلهم إسلاميًّا، ويتولى نيابةً عنهم صياغةَ القرار السياسي والموقفَ الشرعي في قضايا الشأن العام- فيه كثير من المجازفة؛ فإن جُلَّ الكِيَانات السياسية الحاكمة في المشرق علمانيةُ المشرب، فلا تختلف كثيرًا في نمط حياتها ومعتقدها السياسي عن كيانات الدول في المجتمعات الغربية، وقد تتفوَّق عليها الدول الغربية بما تمنحه من حريات، وما تكفله من حقوق الإنسان.
والخلافة المزعومة التي تدعو إليها داعش لا تُمثِّل جماعةَ المسلمين، فإن الخلافة في موروثنا الإسلامي نيابةٌ عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ومن أبرز ملامحها وآكدها الإقرارُ بمرجعية الشريعة وسلطة الأمة، ومرجعية الشريعة ليست موضعَ مُمَاراةٍ من أحدٍ ممن ينتسبون إلى الفسطاط الإسلامي في الجملة، ممن لا يزالون على أصل الإقرار بالتوحيد والرسالة، وما نازع في مرجعيتها إلا غلاةُ العلمانيين واللبراليين واللادينيين وأضرابهم في واقعنا المعاصر، أما سلطان الأمة فهو الأمر الذي تعرض لانتهاكات صارخة ولا يزال. ومن أبرز صور انتهاكاته ما جرى مؤخرًا على يد البغدادي وفريقه عند إعلانهم لما سموه الخلافة الإسلامية.
وأول ما يرد على ذلك هو الاستبدادُ بهذا الأمر الجلل دون بقية المسلمين، فمن ذا الذي خوَّلهم الافتياتَ على الأمة وفوضهم بذلك؟!
ألم يأتهم نبأُ عمر رضي الله عنه عندما قال: مَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا. رواه البخاري وغيره.
والمعنى- كما قال ابن حجر رحمه الله- في «الفتح»: «أنَّ من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل».
وأيُّ شوكةٍ يعوِّلون عليها – إن صحَّ ما يُنسب إليهم – في إعلان الحرب على الدنيا بأسرها، وهم ينزعون الشرعية عما سواهم؟! ويدعون جميع الكيانات السياسية في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها إلى مُبايعتهم، وما يعينه ذلك من نزع شرعيتها جميعًا، وإعلان الحرب عليها جميعًا، ومن ورائها بقية دول العالم بمعسكريه: الشيوعي والرأسمالي؟!
فإذا أضيف إلى ذلك روحُ التكفير واستحلالُ المخالفين الذي تنضح به تصريحاتُ رموزهم وكبرائهم، والتلويح بفلق رءوس المنابذين لهم، بل وممارسة ذلك بالفعل لهالنا الأمر، وأدركنا ما يحمله من مخالفات شرعية، ومجازفات عملية، تفتقد لأدنى درجات الوعي والحكمة والرشد والبصيرة، ويمثل لونًا من الانتحار الديني والسياسي بكل المقاييس البشرية؟!
والخلاصة يا بني:
إنَّ جُلَّ كيانات الدول القائمة في بلاد المسلمين كيانات قُطْرِية علمانية، تقوم في الجملة على إقصاء الشريعة ونبذ مرجعيتها، وتتسم بالقمعِ والدكتاتورية، فيجبُ نحوها ما يجب على المتوطنين في كل دولة من التعامل معها بما يُحَقِّق المصالح، ويدفع المفاسد، ويرفع المظالم، ويحول دون شيوع الفوضى والاحتراب الداخلي، فإنه يحدُث من المظالم في فوضى ساعة ما لا يحصُل من المظالم في جَوْر واستبدادِ سنين، مع عدم مشايعتها على بغيِها بقول أو عمل، إلى أن يأتي الله بالفتح أو أمرٍ من عنده، ولكنها ليست هي الكيانات التي تُمثِّل جماعة المسلمين، وتخلف رسول الله على أمته، والتي تعد نائبةً عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، والتي يجب على الأمة كافةً مبايعتُها، وإلقاءُ السُّلَّم إليها، والتي من لم يبايعها ماتَ ميتةً جاهلية، بل ولا هي ادعت لنفسها ذلك.
أما الموقف الشرعي فيمثله علماء الأمة الثقات العدول، الذي عرفوا بالوسطية والبُعد عن الغلو، سواء أكانوا في كيانات مؤسسية فقهيَّة كالمجامع الفقهية ونحوها، أم كانوا أفرادًا باعتبار أرصدتهم العلمية، ومواقفهم الربانية، وبصماتهم المضيئة في عالم الفتوى والريادة الدينية، وهؤلاء لم ينقطع وجودهم، وبهم تُقام الحجة على عباد الله، وفيهم يصدُق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْـحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَـهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَذَلِكَ». وهو ظهور حُجَّة وبرهان، وليس بالضرورة أن يكون ظهورَ قوةٍ وسلطان.
فهوِّن عليك يا بني، واحفظ لقومِكَ حُرماتهم ما أقمت بين أظهرهم، مسلمين كانوا أو غير مسلمين: فالمسلم يعصمُه إسلامُه، وغير المسلم يعصمُه أمانُه، واجتهد في دعم الوسطية الإسلامية والمشاركة في استفاضة البلاغ بها، والمشاركة في إشاعة السلام الاجتماعي، وإدانة مفاهيم الغلُوِّ، والنصح لأصحابها، والتعاون في ذلك مع جميع مؤسسات المجتمع المدني.
كما يشرع لك المشاركةُ في دعم المواقف العادلة للدولة القُطْرِيَّة التي تعيش فيها، وأن تبذل النصحَ لها في مواقفها الأخرى التي حادت فيها عن الحق والعدل، وأن لا تشايعها عليها بقولٍ أو عمل، مع التأكيد على عدم مشروعية المشاركة في حروب ظالمة على مستوى العلاقات الخارجية فإن الظلمَ قبيحٌ في جميع الملل والشرائع.
وصفوة القول أنه لا تُوجد هذه السلطة السياسية التي تقرِّر للأمة كافةً في الشأن السياسي، وإنما هي دول قطرية تلزم رعاياها فقط، وجُلُّها يدور في الفلك العلماني، ولا تنوب عن النبوَّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، أما الشأن الديني فمردُّه إلى علماء الأمة الثقات، وهم متوافرون لا يخلو منهم زمان، فإن وجهَ الأرض لا يخلو من قائمٍ لله بحُجَّة، ينفون عن الدين تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، وعلى المسلم أن يبذل الجهدَ في التعرُّف عليهم، لاسيما إذا مرج الدينُ واختلط أئمة الهدى بأئمة الضلالة.
والأصل أننا أمة دعوة، وعلاقتنا مع العالم في جميع أطوارنا هي الدعوةُ إلى الله عز وجل، واستحياءُ النفوس بالتوبة والهداية، ولا تكون الحربُ إلا استثناءً لدرء الحرابة وردِّ العدوان.
وعلى مسلمي البلاد غير الإسلامية أن يحفظوا ميثاقَ المواطنة الذي يربطهم بمجتمعات بلادهم، وأن يكون سفراءَ دعوةٍ وهدايةٍ، ولا تملك سلطةٌ سياسية ولا جهة دينية أن تأمرهم بنقضِ عهودهم وخيانةِ مواثيقهم، فإن الله لا يحبُّ الخائنينَ ولا يهدي كيدَهم، ولا يمكن التحلُّل من هذا الميثاق إلا بإعلان المنابذة والهجرة من البلاد.
هذا ما تيسَّر تحريرُه في الإجابة على سؤالك، والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.
قتل شاب مسلم كندي ينتسب لداعش جنديًّا كنديًّا
تاريخ النشر : 23 فبراير, 2025
التصنيفات الموضوعية: 05 السياسية الشرعية, 13 الجنايات
فتاوى ذات صلة:
