ما حكم السكن في البيوت التي عاشت فيها كلاب؟ وما الذي يجب عمله قبل العيش فيها؟ وهل للفترة الماضية منذ رحيلها عنها أهمية؟ أي إذا كان عاش كلب في البيت قبل سنة أو شهر أو غير ذلك. جزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد تنازع أهل العلم في نجاسة الكلب وطهارته عل ثلاثة مذاهب، أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: «وأما الكلب فقد تنازع العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّه طاهرٌ حتى ريقه، وهذا هو مذهب مالك(1).
والثاني: نجس حتى شعره، وهذا هو مذهب الشافعي(2)، وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثالث: شعره طاهر، وريقه نجسٌ، وهذا هو مذهب أبي حنيفة(3) وأحمد في إحدى الروايتين عنه(4).
وهذا أصحُّ الأقوال، فإذا أصاب الثوبَ أو البدنَ رطوبةُ شعره لم ينجس بذلك». انتهى(5).
ولكل من الجمهور والمالكية أدلتهما على ما ذهبا إليه.
ومن أدلة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم : «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
ومن أدلة المالكية على ذلك حديث البخاري: «كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشُّون شيئًا من ذلك». وقد ساق البخاري هذا الحديث في كتاب الطهارة.
قال السيوطي: إن البخاري فقيه، ودلالة الفقه في «صحيحه» أكثر من دلالتها في غيره؛ وذلك لفقهه، ولذا يقول العلماء: فقه البخاري في تبويبه، وقد يبوب الباب لمسألة فقهية ولا يورد فيها أي حديث؛ لأنه صح عنده حديث في معنى الباب، ولكن ليس على شرطه في الصحة، فيأتي بالمعنى تحت الباب ولا يسوق الحديث؛ لأنه دون ما اشترطه، وقد يترجم للمعنى ويأتي بحديث في الظاهر أنه بعيد جدًّا، ولكن المعنى موجود فيه، فهنا البخاري بوب: كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه في عام الوفود سنة تسع كان صلى الله عليه وسلم ينزل الوفود في المسجد، ولما جاء وفد بني ثقيف في السنة التاسعة أنزلهم في المسجد، ونصب خيامهم في المسجد، وكان يشرف على خدمتهم، وكان ذلك في رمضان؛ ليروا حال المسلمين في صيامهم وفطورهم، ويروا تلاحمهم وإخاءهم، ولذلك لم يخرج رمضان إلا وقد أسلموا جميعًا. قال البخاري: كان هؤلاء القوم في المسجد، وكان يؤتى لهم بالطعام، وحاسة الشم قوية عند الكلب، فهو يمشي ويتشمم في تربة الأرض، ومعلوم أنه إذا تشمم الكلب تربة الأرض فإن لسانه يلهث أيضًا، فلابد أن يصيب لعابه التربة، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بغسلها، ولا بصب الماء عليها كما أمر في قصة بول الأعرابي، ولا أمر بمسح التراب عن مواضع تشمم الكلاب في المسجد، ولو كان سؤر الكلب نجسًا لمنعت الكلاب من ذلك، وتتبع مواطنها، وطهرت بما يمكن أن تطهر به.
والخلاصة: أن الأمر في باب الآنية أضيق منه في غيرها، فطهارة الأماكن أوسع من طهارة الآنية، فاجتهد أيها الحبيب في تنظيف هذا المكان ما استطعت ولا يكن في صدرك حرج مما وراء ذلك، فإن الأمر في ذلك واسع وهو في محل الاجتهاد. والله تعالى أعلى وأعلم.
______________
(1) جاء في «الشرح الصغير» من كتب المالكية (1/43-48): «فصل: في بيان الأعيان الطاهرة والنجسة: (الطاهر: الحي، وعرقه، ودمعه ومخاطه، ولعابه، وبيضه، إلا المذر وما خرج بعد موته): الأصل في الأشياء الطهارة، فجميع أجزاء الأرض وما تولد منها طاهر، والنجاسة عارضة، فكل حي- ولو كلبًا وخنزيرًا- طاهر، وكذا عرقه وما عطف عليه».
(2) جاء «حاشيتي قليوبي وعميرة» من كتب الشافعية (1/78-80): «باب النجاسة… (وكلب وخنزير وفرعهما) أي: فرع كل منهما مع الآخر أو مع غيره من الحيوانات الطاهرة تغليبًا للنجس».
(3) قال الزيلعي في «تبيين الحقائق» (1/31-33): «(والكلب والخنزير وسباع البهائم نجس) أي: سؤر هذه الأشياء نجس».
(4) قال ابن قدامة في «المغني» (1/39-42): «مسألة قال: (وكل إناء حلت فيه نجاسة؛ من ولوغ كلب، أو بول، أو غيره، فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب)، النجاسة تنقسم قسمين: أحدهما؛ نجاسة الكلب والخنزير والمتولد منهما، فهذا لا يختلف المذهب في أنه يجب غسلها سبعًا، إحداهن بالتراب، وهو قول الشافعي».
(5) «مجموع الفتاوى» (21/ 530).