لدي سؤالان:
الأول: هل صلاة الجماعة فرض، أم سنة مؤكدة؟ وما دليلهما من القرآن والسنة؟
والثاني: هل نستطيع أن نُطلق على كلِّ من لم يُواظب على صلاتي الفجر والعشاء في المسجد منافقًا؟ إن كانت الإجابة بـ«لا» إذًا فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم بما معناه: «أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى الْـمُنَافِقِينَ صَلَاتَا الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ عَلِمُوا مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد اختلف أهلُ العلم في حكم صلاة الجماعة:
* فمنهم من ذهب إلى وجوبها على التعيين، وأنها فرض عينٍ، ومن أدلتهم على ذلك:
1- حديث مسلم والنسائيِّ وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائدٌ يَقودني إلي المسجد. فسأله أن يُرخِّص له لِيُصلِّيَ في بيته فرَخَّص له، فلما ولَّى الرجل دعاه فقال: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟» قال: نعم. قال: «فَأَجِبْ».
وجاء مثلُ هذا في رواية أحمد وابن حبان والطبراني، وفيها: أن الأعمى هو عبد الله بن أم مكتوم.
ووجه الاستدلال في هذا الحديث أن الرسولَ عليه الصلاة والسلام لم يُرَخِّص في تركها للأعمى وله عذره، فكيف بالصحيح الذي لا عذر له؟!
2- حديث مسلمٍ وغيره عن أبي هريرة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَتِي فَيَجْمَعُوا لِي حُزَمًا مِنَ الْـحَطَبِ، ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ فَأُحَرِّقهَا عَلَيْهِمْ». فقيل ليزيد بن الأصمِّ: الجمعةَ عَنَى أو غيرها؟ قال: صُمَّتْ أذناي إن لم أكُن سمعت أبا هريرة يَأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر جمعةً ولا غيرها.
ووجه الاستدلال أنَّ هَمَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلِّفين عن الجماعة يدلُّ على معصيتهم، وهذا يدلُّ على وجوبها.
* ومنهم من قال بأنها سنةٌ مؤكَّدة، وهو قول المالكيَّة والأحناف وكثيرٍ من الشافعية، ومن أدلَّتهم على ذلك:
1- حديث: «إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ». رواه الخمسة عن يزيد بن الأسود إلا ابن ماجه.
ووجه الاستدلال أنه حَكَم على صلاة جماعةٍ بأنها نافلة، ويلزمه أن الصلاة الأولى وقعت صحيحة وأجْزأتْ عن الفريضة.
2- حديث: «وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ فِي جَمَاعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنَامُ». رواه البخاريُّ ومسلم.
وحديث: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَفْضُلُ صَلَاتَهُ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْـمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْـمَسْجِدَ، فَإِذَا دَخَلَ الْـمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَمَا تَزَالُ الْـمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ… اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ». متفق عليه.
ووجه الاستدلال أن التفضيل في الأجر يدلُّ على أن الصلاةَ مع غير الإمام لها أجرٌ، ويَقتضي أن تكون صحيحةً، غير أن أجر الجماعة أعظمُ، ذلك أن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة وزيادة، كما هو معروف.
وقد نوقشت أدلة الموجِبين لها بما يلي:
(1) أن عدم ترخيص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم بالتخلُّف عن الجماعة ليس دليلًا على وجوبها حتى على ذَوِي الأعذار، وإنما ذلك لما يَعْلَمُه من حرص عبد الله على الخير مهما كلَّفه من جهد، ولما يَعلَمه أيضًا من ذكائه وفطنته واستطاعته حضور الجماعة بغير قائدٍ، ويدلُّ على هذا أن الرسولَ عليه الصلاة والسلام رخَّص لغيره ممن له عذرٌ أن يُصلِّيَ في بيته، ولا يذهب للجماعة في المسجد؛ فقد روى البخاريُّ ومسلم أن عِتْبان بن مالك وهو ممن شهد بدرًا قال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري- أي: ضعف نظري- وأنا أصلِّي لقومي، فإذا كانت الأمطارُ سال الوادي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتِي مسجدهم فأُصَلِّيَ بهم، ووَدِدْتُ يا رسول أنك تأتِينِي فتُصلِّيَ في بيتي فأتَّخِذَه مُصلًّى. فاستجاب له وصلَّى فيه ركعتين.
ولا يقال: إن الترخيص لعتبان وهو لعذر دليلٌ على أن الجماعة واجبةٌ على غير المعذورين؛ لأنها لو كانت واجبةً لقال له: انظر من يُصلِّي معك في بيتك، فعدم أمْره بذلك دليلٌ على أن الجماعة سُنَّةٌ.
(2) أن حديث الهمِّ بتحريق بيوت المتخلِّفين عن الجماعة لا يدلُّ على وجوبها، بل يدلُّ على عدم وجوبها؛ لأمرين:
الأول: أن همَّه بترك الصلاة وإنابة واحدٍ يُصلِّي بالناس دليلٌ على عدم وجوبها، وإلا فكيف يترك واجبًا؟ ولا يقال: إنه لو عاد من تحريق البيوت لأمْكَنه أن يَجِد جماعةً يُصلِّي بهم؛ لأن وجود جماعةٍ غير مضمون.
والثاني: أن الجماعةَ لو كانت واجبةً تستحقُّ تحريق بيوت المتخلِّفين ما تأخَّر عن تحريقها معاقبةً لهم على المعصية، لكنه لم يفعل، فدلَّ ذلك على عدم وجوبها، وغايته أنها هامَّة.
(3) أن أحاديث الهمِّ بالتحريق وَرَدَت في شأن المنافقِين لتخلُّفهم كثيرًا عن الفجر والعشاء، وذلك في رواية أبي هريرة نفسه التي جاءت عند البخاري، فقد جاء في آخرها: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ العِشَاء». والعرق: بقيَّة لحم، أو عظمٌ عليه لحم. والمرماتان: ما بين ظلف الشاة من اللحم.
فالحديث منصبٌّ على من يُكثرون التخلُّف، وبخاصَّةٍ عن الفجر والعشاء، وهذا دأب الذين فيهم نفاقٌ، جاء في بعض روايات الشيخين: «إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْـمُنَافِقِينَ هِيَ الْفَجْرُ وَالْعِشَاءُ».
(4) أن الوعيدَ بتحريق بيوت المتخلِّفين عن الجماعة يُراد به الزَّجْر لا حقيقته؛ لأن الإحراقَ لا يكون إلا للكفَّار، والإجماع على منع إحراق المسلمين.
(5) أن فريضةَ الجماعة كانت في أول الأمر لحرص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على حضور الناس جميعًا معه لتبليغ الوحي وإرشادهم، ثم نُسِخَ الوجوب؛ قال الحافظ ابن حجر: «ويدلُّ على النَّسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفَذِّ، أي المنفرد؛ لأن الأفضليَّة تقتضي الاشتراك في أصل التفضيل، ومن لازمه الجواز».
هذا بعض ما قيل في مناقشة أدلَّة الموجبين، إلى جانب أن الوجوب فيه حرجٌ، والأرض كلُّها مسجد.
ومنهم من قال بأنها فرضٌ على الكفاية، أي يجب على أهل كلِّ محلَّة أن يُقيموها، وإذا أقامها بعضهم سقط الإثم عن الباقين، وكانت في حقِّهم سُنَّةً؛ وذلك لإظهار شعيرة الإسلام بإجابة المؤذِّن وإقامة الصلاة، ومن هؤلاء الشافعيُّ في أحد قوليه وجمهور المتقدِّمين من أصحابه وكثير من المالكية والحنفية.
ولعلَّ هذا الرأيَ أسعدُ بالأدلَّة وأقرب إلى الصواب؛ لما ورد من الأحاديث المؤكِّدة لفضلها والمحذِّرة من تَرْكها؛ ولما أجاب به الفريق الثاني من المناقشات التي تضعف وجوبها على التعيين، فيكون فيه جمعٌ بين الأدلة التي يُشعر ظاهرها بالوجوب وبين الأدلَّة التي تدلُّ على الندب لما فيها من الفضل، والجمع بين الأحاديث أفضل من إهدار بعضها.
ولقد كان المسلمون الأوَّلون حريصين على صلاة الجماعة وإقامتها في المسجد لمضاعفة الثواب، حتى إن الرجلَ منهم كان يُؤتَى به يهادى بين الرجلين- أي يسندانه- حتى يُقام في الصفِّ كما رواه مسلمٌ عن ابن مسعود.
وهذا كلُّه في حقِّ الرجال، أما صلاة الجماعة للنساء في المسجد فليست واجبةً ولا مندوبة؛ لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل، كما نصَّت على ذلك الأحاديثُ الصحيحة، ولو صلَّت في بيتها جماعةً كان أفضل، على ألَّا تكون إمامًا لرجلٍ.
هذا ولا يصحُّ وَصْفُ المتخلِّف عن صلاتَيِ الفجر والعشاء بالنِّفاق على سبيل التعيين، وهذا هو الشأن في كلِّ نصوص الوعيد التي وردت في ترك بعض الشعائر، فإننا نطلقها على الجنس، أما عند التعيين فلابد له من تحقُّق شروطٍ وانتفاء موانع، وهذا لا سبيل إلى تحقيقه في معيَّنٍ، فتبقى هذه الأحاديث في إطار الزَّجْر وليس في إطار إجراء الأحكام على المعيَّنِين. والله تعالى أعلى وأعلم.
حكم صلاة الجماعة
تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية: 02 الصلاة