حدث خلافٌ في ولايتنا حول صلاة العشاء، حيث ذهبَتْ بعضُ المساجد إلى تقديمها حوالي ثلث ساعة، وعللوا ذلك بأنهم شاهدوا الشفق الأحمر يغيب بعد ساعة وربع من مَغيب الشمس، فاعتمدوا ذلك وقتًا لصلاةِ العشاء، وإن كان سابقًا للتقاويم السائدة بحوالي ثلث ساعة؛ حتى يتسنى للمصلين العودة مبكرين إلى منازلهم؛ نظرًا لقصر الليل، وحاجتهم إلى قسطٍ من النوم يتمكنون به من مواصلة الكدح في محرقة العمل في هذه البلاد. فما الحل؟ أفتونا مأجورين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن المعوَّل عليه في مواقيت الصلاة بدءًا وانتهاءً هو هذه العلامات التي نصبتها الشريعة لذلك، وقد وردت الإشارة إليها في أحاديثَ كثيرة، نذكر منها:
حديث جابر t، قال:
جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين زالت الشمس، فقال: قم يا محمد، فَصَلِّ الظهر. فقام فصلى الظهر، ثم جاءه حين كان ظِلُّ كل شيء مثلَه، فقال: قم فصل العصر. فقام فصلَّى العصر، ثم جاءه حين غابت الشمس، فقال: قم فصل المغرب. فقام فصلى المغرب، ثم مكَث حتى ذهب الشَّفَقُ، فجاءه فقال: قم فصلِّ العشاء. فقام فصلاها، ثم جاءه حين سطع الفجر بالصبح، فقال: قم يا محمد فَصَلِّ. فقام فصلى الصبح، وجاءه مِن الغد حين صار ظلُّ كل شيء مثلَه، فقال: قم فَصَلِّ الظهر. فقام فصلى الظهر، ثم جاءه حين كان ظل كل شيء مثلَيه، فقال: قم فصلِّ العصر. فقام فصلى العصر، ثم جاءه حين غابت الشمس- وقتًا واحدًا لم يزُل عنه- فقال: قم فَصَلِّ المغرب. فقام فصلى المغرب، ثم جاءه العشاءَ حين ذهب ثلُثُ اللَّيل، فقال: قُم فَصَلِّ العشاء. فقام فصلى العشاء، ثم جاءه الصُّبحَ حين أسفر جدًّا، فقال: قم فصل الصبح. فقام، فصلَّى الصبح، فقال: ما بين هذين وقتٌ كلُّه.
فوقتُ العِشَاء يبدأ بمَغيبِ الشَّفَق، وهو الشفق الأحمر عند جماهير أهلِ العلم(1)، وذهب الحنفيَّة(2) إلى أن الشفق هو البياض، وقول الجمهور أظهر، وعامة السلف عليه.
وينتهي وقتُ العشاء بانقضاء نصفِ الليل، أو ثلثه، أو يمتدُّ إلى الفجر، هذا موضع خلافٍ بين أهل العلم، وليس هذا محلَّ الاستقصاء الآن؛ لأن الاستفتاء حول بدء وقت صلاة العشاء، وليس حول انتهائه.
قال ابن قدامة في «المغني»: «لا خلاف في دخول العشاء بمغيبِ الشفق، وإنما اختلفوا في الشفق ما هو، فمذهب إمامنا : أن الشفق الذي يخرج به وقت المغرب ويدخل به وقتُ العشاء هو الحُمرة، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، وذهب الحنفية إلى أن الشفق هو البياض…».
ثم قال ابن قدامة: «إذا ثبت هذا فإنه إن كان في مكانٍ يظهر له الأفق ويبين له مغيبُ الشفق فمتى ذهبت الحُمرة وغابت دخل وقتُ العشاء، وإن كان في مكان يستتر عنه الأُفُق بالجدران والجبال استظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبته على مغيب الحُمرة فيعتبر غَيْبةَ البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه»(3). انتهى.
وما دام الشفق الأحمر يغيب قبلَ الفجر بوقتٍ كافٍ يتسع لصلاة العشاء فلابد من الانتظار حتى يغيبَ الشَّفَقُ؛ لأن دخولَ الوقتِ سببٌ لوجوبِ الصَّلاةِ وشرطٌ في صحتها، اللهم إلا إذا كان الشَّفق لا يغيب حتى يطلع الفجر، أو يغيب في زمن لا يتسع لصلاة العشاء قبل طلوعِ الفجر، فمثل هؤلاء في حكمِ من لا وقت للعشاء عندهم، فيُقدِّرون وقتَه بأقرب البلاد إليهم ممن لهم وقت عشاء مُعتبر، وقيل: يُعتبر بوقته في مكة؛ لأنها أم القرى.
هذا، وتُقوِّم التقاويمُ المعاصرة محلَّ مشاهدة هذه العلامات، إذا وضعها مَن عُرف بالخبِّرَة والديانة؛ لأن الشارع وقَّت الصلاةَ بحلول مواقيتها وليس بمشاهدة علاماتِها، ففارَقَ الصلاة في ذلك الصيام، حيث قال صلى الله عليه وسلم في الصيام: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ»(4)، فربط الصوم بالمشاهدة، أما الصلاة فربطها بدخول الوقت؛ فقال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: 78]، ولم يقل: بمشاهدة دلوكها.
وقد أشار القرافيُّ إلى هذا المعنى في كتابه «الفروق»، وقد أصبح اعتماد عامة المسلمين في الصلاة على هذه التقاويم.
هذا، ولا يصح تثبيتُ مدةٍ معينة على مدارِ العام واعتبارها هي معيار دخول وقت العشاء؛ لأن مغيب الشفق يختلف باختلاف الفُصول، وباختلاف الليل طولًا وقصرًا، اللهم إلا إذا كانت هذه المدة من الطول بحيث يقطع معها بدخول وقت العشاء، أو إذا كان ذلك في شهر بعينِه، كما هو الشأن في بلاد الحرمين، حيث يُثبتون ساعتين بين المغرب والعشاء في شهر رمضان تمكينًا للصائمين من الفراغ من طعامهم، والاستعداد للصلاة.
ولا ينبغي التهجُّمُ على مخالفة المستقرِّ الثابتِ لدى جماعة المسلمين من هذه التقاويم، إلا إذا ثبتت مخالفتُها للصواب بشهادة أهلِ الخبرة والدِّيانة، فعندئذٍ يتنادى الناسُ إلى تصحيحِها؛ فإن الأصل بقاءُ ما كان على ما كان حتى يثبت تغيُّره، واليقين لا يزول بالشك، فإذا حدث لغطٌ حول دقة بعض هذه التقاويم فإنه تُنتدب لذلك لجنة لبحث الأمر من الناحية الفلكية، وتضع نتائج عملها بين يدي جهة الفتوى، ليصدر عنها بيان عام بذلك فيقطع الجدل وتجتمعُ به الكلمة.
ويبقى بعد ذلك أمرٌ آخر: وهو أن من شَقَّ عليه الانتظار لوقت صلاة العشاء لسبب عارض، كما لو غلب عليه الإجهاد وشدة التعب؛ فإن له أن يترخص بالجمع بين المغرب والعشاء جمعَ تقديم؛ دفعًا للحرج والمشقة؛ لما جاء في «صحيح مسلم»: عن عبد الله بن عباس ب: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر. قالوا: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يُحرِج أمته(5). ولعموم قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
ولكن تبقى هذه الرخصة في إطار الاستثناء، على أن يظل الأصل هو المحافظة على المواقيت، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــ
(1) جاء في «مواهب الجليل» (1/396-398): «ص ( وللعشاء من غروب حمرة الشفق للثلث الأول)… ( فصل ) واختلف في أول وقتها فالمعروف من المذهب أن أول وقتها مغيب الشفق الأحمر كما قال المصنف من غروب حمرة الشفق وعليه أكثر العلماء».
وجاء في «تحفة المحتاج» من كتب الشافعية (1/424): «(والعشاء ) يدخل وقتها … ( بمغيب الشفق) الأحمر».
وجاء في «الكافي» من كتب الحنابلة (1/190-192): «فصل: ثم العشاء وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر».
(2) جاء في «بدائع الصنائع» (1/124): «( وأما ) أول وقت العشاء فحين يغيب الشفق بلا خلاف بين أصحابنا ، لما روي في خبر أبي هريرة رضي الله عنه: وأول وقت العشاء حين يغيب الشفق. واختلفوا في تفسير الشفق ، فعند أبي حنيفة هو البياض ، وهو مذهب أبي بكر وعمر ومعاذ وعائشة رضي الله عنهم ، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي هو الحمرة ، وهو قول عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وهو رواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة.
(3) «المغني» (1/277-278).
(4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الصوم» باب «قول النبي ﷺ: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا» حديث (1909)، ومسلم في كتاب «الصيام» باب «وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يومًا» حديث (1081) من حديث أبي هريرة t.
(5) أخرجه مسلم في كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» باب «الجمع بين الصلاتين في الحضر» حديث (705).