فضيلة الدكتور صلاح، ملخص الموضوع في شأن تحري القبلة في مسجد جديد: المسئول يقول إنه يجوز الانحراف عنها بـ٣٠ درجة لأنها تتماشى مع الحائط، ولكي تكون الصفوف أطول. مع العلم أن المسجد كبير وهناك قاعة أخرى في حالة ازدياد عدد المصلين، مع العلم بأن هناك من الناس من يجد حرجًا في الصلاة على هذا الاتجاه. فهل هذا يجوز؟ وما هي النصيحة التي تنصحنا بها من أجل الصالح العام؟ وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، والواجب على كل مصلٍّ أن يتحرى جهة القبلة في صلاته، وأن يجتهد في ضبطها لصلاته، إما عن طريق العلامات أو الآلات الدالة عليها، إن كان يمكنه ذلك، أو عن طريق خبر الثقات من أهل المكان الذين لهم معرفة بجهة القبلة.
والغالب على الحال عند التنازع أن يكون الانحراف عن جهة القبلة يسيرًا، وهذا الانحراف اليسير هو الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك التردد والاضطراب من أهل المكان عادةً؛ بحيث لا ينتبه الإنسان إلى ذلك الفرق بين الجهتين؛ فإن كان الأمر كذلك، يعني أن الانحراف عن القبلة كان يسيرًا، فإن هذا لا يضر ولا تبطل به الصلاة؛ لأن الواجب على من كان بعيدًا عن الكعبة أن يتجه إلى جهتها، ولا يشترط في حقه أن يكون اتجاهه إلى عين الكعبة، لما جاء في حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا بَيْنَ الـْمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ قِبْلَةٌ»(1).
قال الصنعاني : في «سبل السلام»: «والحديث دليل على أن الواجب استقبال الجهة، لا العين في حق من تعذرت عليه العين»(2).
ومن الأدلة على ذلك أيضًا ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي أيوب رضي الله عنه أَن النبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»(3).
قال شيخ الإسلام : في «شرح العمدة»: «هذا بيان لأن ما سوى التشريق والتغريب استقبال للقبلة أو استدبار لها، وهذا خطاب لأهل المدينة ومن كان على سمتهم… لأن ذلك إجماع الصحابة؛ قال عمر: ما بين المشرق والمغرب قبلة كله إلا عند البيت… وعن عثمان رضي الله عنه أنه قال: كيف يخطئ الرجل الصلاة وما بين المشرق والمغرب قبلة، ما لم يتحرَّ المشرق عمدًا»(4).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: «وبهذا نعرف أن الأمر واسع، فلو رأينا شخصًا يُصلي منحرفًا يسيرًا عن مسامتة- أي: محاذاة- القبلة، فإن ذلك لا يضر، لأنه متجه إلى الجهة، وهذا فرضه»(5).
وأما إن كان الانحراف عن جهة الكعبة كثيرًا؛ بحيث تكون صلاتك إلى غير الجهة التي فيها القبلة إما شرقًا والقبلة غرب أو شمال مثلًا، فإذا كان الإنسان قد بنى عمله على قول من يعلم اهتمامهم بأمر الصلاة، وتعظيمهم لقدرها، وكان في ظنه أنهم أدرى منه باتجاه القبلة فلا شيء عليه، وصلاته التي صلاها صحيحة، حتى ولو كان مخطئًا في اتجاهه الذي صلى إليه؛ لأن الإنسان إذا اجتهد وتحرى، فقد فعل ما يجب عليه، لقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
جاء في «فتاوى اللجنة الدائمة» (6/314): «إذا اجتهد المصلي في تحري القبلة وصلى، ثم تبين أن تحريه كان خطأ، فصلاته صحيحة».
وفي «فتاوى الشيخ ابن باز :» (10/421): «إذا اجتهد المؤمن في تحري القبلة، حال كونه في الصحراء، أو في البلاد التي تشتبه فيها القبلة، ثم صلى باجتهاده، وبعد ذلك ظهر أنه صلى إلى غير القبلة، فإنه يعمل باجتهاده الأخير، إذا ظهر له أنه أصح من اجتهاده الأول، وصلاته الأولى صحيحة؛ لأنه أداها عن اجتهاد وتحرٍّ للحق».
والذي ننصح به بعد ذلك كله أن تأتمروا بينكم بمعروف، فإذا تبين لكم من خلال الآلات الدقيقة جهة القبلة فلا ينبغي لكم الانحراف عنها ولو لمصلحة توسعة المسجد واعتدال الصفوف، لأن هذه مسألة تكميلية وتحرى القبلة مسألة أساسية، والتوسع الوارد في مقالات أهل العلم إنما هو في شأن من أخطأ بعد اجتهاد وليس في شأن من انحرف عنها عمدًا لمصلحة يراها، ولكن الذي نؤكد عليه مرة أخرى أن تأتمروا بينكم بمعروف، وألا يكون ذلك سببًا لتفرق كلمتكم وتشرذم صفوفكم. والله من وراء القصد، وهو تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي في كتاب «الصلاة» باب «ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة» حديث (342)، وابن ماجه في كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب «القبلة» حديث (1011)، وصححه الألباني في «الإرواء» حديث (292).
(2) «سبل السلام» (1/134).
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «قبلة أهل المدينة وأهل الشأم والمشرق» حديث (394)، ومسلم في كتاب «الطهارة» باب «الاستطابة» حديث (264).
(4) «شرح العمدة» (4/538).
(5) «الشرح الممتع» (2/273).