أنا طالب مُبتعَثٌ في مدينة جامعيَّة في أمريكا، والتي يغلب على سُكَّانها أن يكونوا طلبةً جامعيين، سواءٌ لدراسة البكالوريوس أو المراحل العليا.
السؤال: ما هو حكم إقامة صلاة الجمعة في مثل هذه المدن على الرغم من انعدام المستوطنين، فغالب الـمُقيمين يرحلون عن البلد صيفًا ويَنْوُون الرحيلَ عن هذا البلد بعد إتمام الدراسة، والذي أعرفه من السادة الفقهاء أن مِن شروط إقامة الصَّلاة أربعين مُستوطنًا وثلاثةً على أقل أقوالهم.
المسألة الثانية: في حال وجود جماعةٍ تُقيم الجمعة، فهل يُصلَّى معهم بنية الجمعة، أم بنيةِ نافلةٍ، أم يُوضَّح لهم عدمُ صحة الصَّلاة في هذه الحالة؟ وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن صلاةَ الجمعة من أمثالكم صحيحة، والجمعة تصحُّ في كلِّ مكانٍ حصل فيه اجتماع الناس، واسمها مُشتَقٌّ من ذلك، وشرط الاستيطان من مسائل النظر بين أهل العلم، ويُقابله البداوة وسُكْنى الخيام ودوام الترحال، وأنتم لستم كذلك والحمد لله، بل قد توطَّنْت أنت وأمثالك بما أجمعتم عليه من الإقامة مدةً تقطع عنكم حكمَ السَّفَر وتمنعكم من التمتع برُخَصِه.
وتفصيلُ القول في مسألة المكان الذي تُقام فيه الجمعة أن الحنفيَّة(1) يشترطون للوجوب والصحة معًا الـمِصْرَ، والمراد بالـمِصْر عندهم البلدة التي فيها سُلطانٌ أو نائبه لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، ويلحق بالمصر عندهم ضواحيه وأفنيته والقرى المنتشرة حوله.
ولم يشترط الفقهاءُ الآخرون هذا الشرطَ بهذه الهيئة؛ فالشافعيَّة(2) يكتفون باشتراط إقامتها في خطةِ أبنيةٍ، سواءٌ كانت من بلدةٍ أو قرية.
والمالكية(3) يَنْحون مَنْحًى قريبًا من هذا، فيشترطون أن تُقام في مكانٍ صالح للاستيطان، فتصحُّ إقامتُها عندهم في المكان الذي فيه الأبنية والأخصاص، أي البيوت المبنيَّة من الخشب أو سَعَف النخيل؛ لاتِّخاذها عادةً للاستيطان فيها مدةً طويلة، وصلاحيَّتها لذلك، ولا تصحُّ في المكان الذي كلُّ مبانيه خيامٌ؛ لعدم اتِّخاذها للاستيطان عادةً وعدم صلاحيتها لذلك.
وأما الحنابلة(4) فلا يشترطون شيئًا من هذا، فتصحُّ عندهم في الصحاري وبين مضارب الخيام.
ولعل الراجحَ في هذه المسألة هو أن الجمعةَ تصحُّ في كلِّ مكانٍ حصل فيه اجتماعُ الناس، واسمُها مُشتقٌّ من ذلك، ولا يُشترط الـمِصْرُ، بل تصحُّ في المدن والقرى.
وقد بوَّب البخاريُّ بما يقتضي ذلك فقال: باب «الجمعة في القرى والمدن»، وذَكَر حديثَ ابن عباس أنه قال: إن أولَ جمعةٍ جُمِّعَت بعد جمعةٍ جُمِّعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجُوَاثَى. يعني: قرية من البحرين(5).
قال الحافظ في «الفتح»: «ووجه الدلالة منه أن الظاهرَ أن عبد القيس لم يُجمِّعوا إلا بأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لما عُرِف من عادة الصَّحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعيَّة في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن»(6).
وعن أبي هريرة أنهم كتبوا إلى عمر ب يسألونه عن الجمعة، فكتب إليهم: جَمِّعوا حيث كنتم. أخرجه ابن أبي شَيْبة، وصحَّحه ابنُ خُزَيمة، كما قال الحافظ(7).
وهذا يشمل المدنَ والقرى.
وروى البيهقي في «سننه»: عن الوليد بن مسلم قال: سألتُ الليثَ بن سعد: كلُّ مدينة أو قرية بها جماعة وعليه أميرٌ أُمِروا بالجمعة؟ فَلْيُجمِّعْ بهم؛ فإن أهلَ الإسكندرية ومدائن مصر ومدائن سواحلها كانوا يُجمِّعون الجمعةَ على عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنه بأمرهما وفيها رجالٌ من الصَّحابة(8). ثم قال البيهقي بعد أن نقل جملةً من الآثار عن الصَّحابة فمَن بعدهم في هذا المعنى، قال: والأشبه بأقاويل السَّلَف وأفعالهم إقامةُ الجمعة في القُرَى التي أهلُها أهلُ قرارٍ وليسوا بأهل عمود ينتقلون(9).
بل إن بعضَ أهل العلم صحَّحها من أهل البادية، مُستدلِّين بما روى عبد الرَّزَّاق بإسنادٍ صحيح- كما قال الحافظ- عن ابن عمر: أنه كان يرى أهلَ المياه بين مكة والمدينة يُجمِّعون فلا يعيب عليهم(10).
والخلاصة: أن جمعتَكم صحيحةٌ بإذن الله. وأقل عدد تنعقد به الجمعة ثلاثة في أظهر أقوال أهل العلم. ونسأل اللهَ لنا ولكم القبول، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــ
(1) جاء في «الجوهرة النيرة» للعبادي، من كتب الحنفية (1/88-89): «(لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع) لقوله عليه السلام: لا جمعة ولا تشريق ولا أضحى إلا في مصر جامع».
(2) جاء في «تحفة المحتاج» من كتب الشافعية (2/423-424): «الثاني أن تقام في خطة أبنية) ……. والمراد بالخطة: محل معدود من البلد أو القرية».
(3) جاء في «شرح مختصر خليل للخرشي» من كتب المالكية (2/73-74): «تجب باستيطان البلد والأخصاص لا الخيم».
و جاء في «الفواكه الدواني» من كتب المالكية (1/259-260): «قال خليل: شرط الجمعة وقوع كلها بالخطبة وقت الظهر للغروب، إلى أن قال: باستيطان بلد أو أخصاص لا خيم، وبجامع مبني متحد».
(4) جاء في «الكافي» لابن قدامة، من كتب الحنابلة (1/320-321): «الثامن من شروط الجمعة: أن يكون مقيما بمكان الجمعة أو قريبا منه، وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجمعة على من سمع النداء. رواه أبو داود».
(5) أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «وفد عبد القيس» حديث (4371).
(6) «فتح الباري» (2/380).
(7) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (1/440) حديث (5068).
(8) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (3/178) حديث (5402).
(9) البيهقي في «الكبرى» (3/178) حديث (5404).
(10) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (3/170) حديث (5185).