هل يجوز للمتصدق أن يشتري صدقتَه من الفقير إذا كانت حاجتُه إلى القيمة وليس إلى عينِ هذه الصدقة؟ هل يُعتبر هذا من قبيل العود في الهبة المحرَّم، أم من قبيل شراء الصدقة بالمال والذي ورَد فيه حديث «ورجل اشتراها بماله»؟
ولكي نزيد المسألة وضوحًا نقوم أحيانًا بعمل «فندريزينج» للمسجد، فتأتينا تبرعات عينية من الحُلِي، والمسجد لا ينتفع بأعيانها بل بثمنها عندما تباع، فيقوم بعمل مزاد علني على هذه التبرعات العينية، وغالبًا ما تُشتَرى بأضعاف قيمتها، فهل يجوز لمن تصدَّق بها أن يدخل في هذا المزاد ليشتريَها بما تنتهي عنده رغبات المشترين؟ أم أن هذا يُعتبر من قبيل العود في الهبة؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلقد جاءت النصوصُ بنهي المتصدق أن يعود في صدقته، والـمُهدِي أن يعود في هديته، وتمثيل ذلك بهذا المثال المستقذر طبعًا وحسًّا وشرعًا: «كمثل الكلب يعود في قيئه». فعن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر: أنه حمل على فرس في سبيل الله فوجده عند صاحبه وقد أضاعه، وكان قليلَ المال، فأراد أن يشتريه، فأتى رسول الله فذكر ذلك له، فقال: «لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أُعْطِيتَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ مَثَلَ الْعَائِدِ فِي صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»(1).
ولكن ورد في الباب كذلك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِـخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ الله، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتُصُدِّقَ عَلَى الْـمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْـمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ»(2).
فمن اشترى الصدقة بماله بغير محاباة فإنها تحلُّ له، ولعلَّ الجمع بينهما: أن شراءها بماله المشار إليه في الحديث مناطُه الشراء من عامل الزكاة، فقد كان يدفع إلى العامل مثلًا بنت مخاض في الزكاة، ويعسر عليه نقلها، ولا يدري ماذا يفعل بها، ويكون الأرفق بالعامل والأنفع لبيت الزكاة أخذُ القيمة، فيقدرها العامل له ثم يأخذ منه القيمة ويتركها له، وقد يبيعها لطرف ثالث ثم يشتريها المتصدِّق منه، والمصلحة هنا منظورٌ فيها للفقير وليس للمتصدق، فيكون هذا من جنس أخذِ القيمة في الزكاة، وهو باب آخر غير الباب الذي نتحدَّث عنه.
أما إذا تصدق بها على الفقير المعيَّن فلا يشتريها من الفقير إعمالًا للحديثين، وتوفيقًا بينهما.
ولعلَّ من أوجه الحكمة في ذلك: أن الفقير إذا رأى أن المشتري هو نفس الشخص الذي تصدَّق عليه فقد يتغاضى له في الثمن، ويتسامح معه، فيبيعه له برخص، حياءً وخجلًا منه؛ فلذلك لم يكن له شراؤُه منه دفعًا لهذا المحذور.
فإذا انتقلنا بهذه القواعد إلى باب التطبيق فإننا نجد أن القائمين على المساجد كالعاملين عليها في باب الزكوات، فهم لا يتلقَّوْن الأموال لأنفسهم، وإنما لصالح المؤسسة التي يقومون عليها، فإذا تلقوا هبات عينية كحُلي الذهب والفضة فهم قطعًا لا يريدونها لأعيانها، وإنما يريدون قِيَمَها، ولا سبيل لهم إلى الانتفاع بها إلا بذلك، فإذا عرضوها للمزاد العلني ليحصلوا فيها على أعلى قيمة، فلا بأس أن يدخل المتصدِّق مع هؤلاء، ليشتري بالثمن الذي تنتهي عنده رغبات المشترين، لانتفاء المحذور في هذه الحالة، فيكون حينئذ ممن اشتراها بماله، وليس من العائدين في هباتهم وصدقاتهم.
وأولى من ذلك بالقبول إذا اشتراها من طرف ثالث كان قد اشتراها من المسجد، فإنه يكون قطعًا ممن اشتراها بماله، وليس من العائد في هبته.
ويبقى بعد ذلك أن باب الورع مفتوح لمن شاء، فخير دينكم الورع(3). والله تعالى أعلى وأعلم.
______________________
(1) أخرجه مسلم في كتاب «الهبات» باب «كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه» حديث (1620).
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «الزكاة» باب «من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني» حديث (1635)، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (1635).
(3) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (1/171) حديث (317)، والطبراني في «الأوسط» (4/197) حديث (3960)، والبزار في «مسنده» (7/371)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكِمُ الْوَرَعُ»، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/50) وقال: «رواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن».